وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

السبت، شعبان ٣٠، ١٤٢٧

تغطية// الفعالية الأولى للجنة النسائية بأدبي الرياض

اليوم الثقافي
السبت 01 - 09 - 1427هـ
الموافق 23 - 09 - 2006م



في الفعالية الأولى للجنة النسائية بأدبي الرياض

الغريبي: العنوان العريض لحالة المسرح اليوم يصل بنا إلى الاعتراف بعدمه



منال العويبيل - الرياض



دشّنت اللجنة النسائية في نادي الرياض الأدبي مساء الاثنين الماضي أُولى فعالياتها الثقافية بندوة تحت عنوان: «الوطن.. الهوية والانتماء» في إحدى قاعات مكتبة الملك عبد العزيز فرع المربع، تزامناً مع احتفائية المملكة بيومها الوطني، وقد كان مستوى طرح المشاركتين الدكتورة سميرة قطّان ، والأستاذة لينا السليم ، وعمق المداخلات نجمَيْ هذه المناسبة في ظل الحضور الشحيح من الجمهور العام ، والذي عزته الحاضرات للقصور الإعلاني عن المناسبة.

كانت البداية لتقديم موجز من الدكتورة سعاد المانع (مديرة الندوة وعضو اللجنة النسائية) للدكتورة سميرة قطان مديرة فرع الجامعة العربية المفتوحة في جدة، والحائزة على دكتوراة برسالة عن «عمل المرأة في المملكة.. تحليل للتقليدية والتغيّر»، والتي سبق أن أعدت العديد من البحوث الاجتماعية حول المجتمع السعودي والأسرة. وقد شرّعت حديثها حول المفهوم الأساسي للاستيطان الإنساني في سبيل الاستقرار، وتحسين المعيشة، والذي تأتى مباشرة من فكرة إعمار الأرض، إلا أن مفرزات الحياة المدنية، وتحوّلها من النمط القروي البسيط، فاقم مشاكل المجتمع الذي فَقَدَ على إثر ذلك العديد من قيمه الحميدة إبان التوسع المعيشي.

ومن ناحية ركّزتْ في حديثها على الوعي العام تجاه المعنى الكامل للمُوَاطَنَة من حيث شمولها لجميع الأدوار، والمسئوليات بعدة متطلبات.. تتمثل على سبيل المثال في وعي المواطنين بأن الأمن مسئولية مشتركة، ولا تحتكر الدولة فقط مسئوليته. كذلك ركزت على ضرورة اهتمام العامة بالانخراط في النشاطات الخيرية والتطوّعية ، والاهتمام بالمحافظة على البيئة والممتلكات العامة كما لو كانت ملكا لكل شخص، وبالتالي تترتب عليه مسئولية الحفاظ عليها. وقد كانت أهم النقاط التي أثارتها التأكيد على مبدأ التماسك والتفاعل المباشر بين أطياف المجتمع في محيطه المباشر ومن ثمَّ تتوسع دائرته.. بما يكفل القضاء على شعور الاغتراب، والحفاظ على القيم الإيجابية، وهو ما يمكن تأسيسه بتوجيه الاهتمام بمراكز الأحياء التي تساهم في زيادة الروابط بين سكان الحيّ الواحد ، وتهتم بتشجيع الأُسر للمشاركة في أنشطة عامة مختلفة التوجهات لجذب الجميع، وبالتالي خلق جوّ من التعاضد الاجتماعي الحقيقي الذي يلغي العزلة أو الإقصاء.

ومن ثم انتقل الحديث إلى لينا السليم ، حاملة شهادة الماجستير في تخصص المناهج وطرق التدريس من جامعة الملك سعود، والتي تبنت ورقة عملها مفهوم «المواطنة والتعليم»، وأكدت حقيقة تكثيف الضوء على إصلاحات التعليم، ليس لمجرد الدعوات الخارجية لمرحلة ما بعد 11 سبتمبر بقدر ما للأمر علاقة باحتياجاتنا الخاصة، فحقيقةً لا توجد مشكلة في المجتمع إلا وكان للتعليم دور فيها.
وأضافت: إذا كان أحد أهم الأهداف التربوية في مراحل التعليم المختلفة (إيجاد المواطن الصالح) يجب علينا التساؤل عن مدى تحقق ذلك، والإقرار بأنه لن يحصل بوضع مقرر يحمل اسم التربية الوطنية، بل يحتاج صناعة كاملة من الصغر. وشددت على الإيمان بأن المُوَاطَنَة في أصلها الحقيقي ترادف المعرفة، وأن من أكثر المؤثرات السلبية الظن الخاطئ بمثالية المجتمع، وهو ما يناقض فكرة المواطَنَة الصالحة التي تتطلب استشعار مشاكل المجتمع، وتفهم عيوبه في سبيل السعي لإصلاحها بمسئولية مشتركة من الجميع.

ومن جانب آخر يجب عدم إغفال تأثير اعتماد الهوية الدينية كأساس على حساب الهوية الوطنية، وهو الذي لا يُحتسب كخطأ بقدر إشكالية تهميشه لمفهوم الوطنية لدى الأفراد. كما تناولت في معرض حديثها الجدل القائم عما يمكن وصفه بالخصوصية السعودية، والتي يتلقفها توجّهان أحدهما الإنكار، والآخر التعلق الشديد لدرجة الرغبة في الانغلاق، وعرقلة الانفتاح على الغير.. فعلى سبيل المثال ساهم الانغلاق في تغييب إنجازات المرأة السعودية، حتى ظلت تُرى بعين التفاجؤ بقدراتها من الآخرين، مما يوجب التساؤل عما إذا كان المسبب: التقصير من الداخل، أم قولبتها من قِبَل الخارج.

ومن ثمّ انتقل الحديث لعدد من المُدَاخِلات، تقدمتهن الدكتورة تهاني الغريبي بورقة موجزة عن دور المسرح في تنمية الهوية الوطنية، وأن العنوان العريض لحالة المسرح اليوم يصل بنا إلى الاعتراف بعدمه. ومن ثمّ استعرضت بإيجاز دور المسرح منذ العصر الفيكتوري، وحركة المسرح الناصري، والشيوعي، وما تحققه من تنوع يضم كافة الأطياف السياسية، ويعزز الهوية، وإن هذا التأثير لن يتأتى محلياً إلا بجودة الكتّاب، وعمق رؤاهم، وقدرتهم على الصياغة الواعية بالمحيط الاجتماعي.. خاصةً أننا نعترف بأن حالتنا الراهنة مع بعض التيارات المتصارعة تجعل فتح المجال المسرحي أشبه بفتح النار!.

وحول دور الأدب في تعزيز الهوية كان للدكتورة وسميّة المنصور رؤية هي أن الأمر ينطلق ببساطة من مبدأ أن الكلمة مسئولية، وأن الهوية تترتب للإنسان فعلياً بما اختاره قلبه، وعقله. كما أن خلق فردية الإنسان عن طريق القراءة يجعله يبني هويته بما يقرأه، وأنه في ظل الانفتاح الإعلامي لم يعد على الأسرة سوى تنمية المسئولية داخل أفرادها للرقي بانتقاءاتهم.

أما التشكيلية هدى العمر فكان لها مداخلة حول العلاقة بين الفن التشكيلي والهوية الوطنية، فابتدأت حديثها حول ضرورة توعية المجتمع بالفن بصفة عامة من كونه رسالة تحتاج إلى مستجيب.. خاصةً من كون أن التشكيلي يولد في إطار اجتماعي، ويضمّن طرحه - برغم ذوقه الخاص - مؤثرات بيئته. وفي عرض تاريخي مبسّط تناولت الاتجاه الحديث للتجريد في الفن (والذي يُعدّ قمة وصول الفنان لأسلوبه)، والذي يُعد فعلياً منبع الفن الإسلامي، وإن كان الغرب في عصر فنهم الذهبي اتخذوا الجسد كأداة عليا للتعبير، فقد اتخذ الفنانون المسلمون ترميزهم الراقي في التجريد، وبالتالي من منطلق أن الفنان السعودي وريث طبيعي لحضارته الإسلامية استطاع تحقيق ذاته، ونيل مكانة مميزة بجوائز عالمية رسّخت هويته الفنية والوطنية.

ومن ناحية عقّبت الكاتبة أميمة الخميس (عضو اللجنة النسائية في النادي) في مداخلة لها عما تطرقت إليه ورقة الدكتورة سميرة قطّان حول واجبات المواطن، بأنه يجب التركيز على تعزيز الإحساس بالانتماء ، والمشاركة بعدة أمور تشمل: الاقتراب أكثر من صنّاع القرار، والمؤسسات المدنيّة، وتأسيس البرلمانات، والانتخابات الحرة. إلى جانب أنه يجب أخذ إشكالية الانتقال من القيمة القبلية أو الزراعية، إلى شكل الدولة الحديثة بعين الاعتبار، إذ صعّبت الوعي الكامل بالولاء المباشر لمفهوم الدولة.

أما الإعلامية نوال الراشد فكان لها تعقيب حول ما للإعلام من دور مؤثر في تعزيز المواطَنة، خاصة المرأة التي أخذت تُثبت مكانتها الإعلامية بعد مرحلة من التغييب الذي تقيّد بالتقاليد الاجتماعية، وتجاهُل المؤسسات الإعلامية للمرأة، وحكر عملها دون مسمى وظيفي، إلى جانب الافتقار للتخصصات الإعلامية، والاعتماد على التعليم الخارجي.

ومن جانب آخر نوّهت الدكتورة سعاد المانع بجمالية توقيت تدشين أولى فعاليات النادي الأدبي بلجنته النسائية الذي يقارب الاحتفاء باليوم الوطني، كون الوطن والوطنية مِن ألحِّ القضايا الحالية، ومن ناحية أشادت بجهود فاطمة الحسين (مديرة المكتبة عضو اللجنة النسائية) التي سهّلت جعل المكتبة موقعاً لتدشين فعاليات اللجنة. وأبدت سعادتها بالمشاركات في الندوة رغم أسفها على شح الحضور. وقد حرصت اللجنة التي ضمت عدة أطياف ثقافية أكاديمية وغيرها (بدءًا بالدكتورة سعاد المانع، وفاء السبيّل، فوزية أبو خالد، فاطمة الحسين، هدى الدغفق، أميمة الخميس، هيلة الخلف، أميرة الزهراني) على توزيع استبيانات على الحاضرات بغرض استطلاع الاقتراحات والرؤى حول الملتقى الشهري الذي تعتزم تدشينه، وبالتالي تمت أول فعالية برضا من الحاضرات عن مستوى الطرح، آملات توسيع العديد من الأطروحات لندوات أوسع، بحضور أكبر، وتفاعل إعلامي أقوى.

الثلاثاء، شعبان ٢٦، ١٤٢٧

قراءة// في مسرحية «سنوات مرّتْ بدونك»0


اليوم الثقافي
الثلاثاء 26 - 08 - 1427هـ

الموافق 19 - 09 - 2006م

قراءة في مسرحية «سنوات مرّتْ بدونك» 00


دعوة من جواد الأسدي إلى واقع أجمل بكثير من الأمل وقليل من الألم


يرى البعض أن اتجاه الكتّاب المسرحيين لطبع نصوصهم يستلزم بعضاً من الجرأة، والكثير من المغامرة.. خاصة عند التوجه للقارئ العادي بمعزل عن المُشاهد الذي قد يقع مسبقاً تحت سحر النص أثناء العرض الحي، فكيف بنصٍ لم يجد سبيلاً للإخراج على الإطلاق، إلا أنّه في نص العراقي الدكتور جواد الأسدي (سنوات مرّتْ بدونك) ما يشجّع القارئ العادي لتناول الـ 126 صفحة من الكتاب ، و الصادر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع، بمتعة و ملؤه ألم للواقع المنطلق منه دون أن يتطلبه الإلمام بقواعد التجريب، أو ضوابط النص المسرحي..
حيث تدور الحبكة حول «خزعة» من نخاع الحياة في العراق اليوم، بتركيز إنساني لا يجنح للشاعرية البحتة، أو الرموز الأسطورية التي تدبَّج في العديد من إبداع المشهد الثقافي العراقي.

إنّ القصة التي تتناول عائلة «فيصل» قد تشبه في بعض تفاصيلها ما قد تتناقله تقارير القنوات الإخبارية عن الحياة هناك رديف كل نشرة.. من العيش تحت وطأة الانفجارات، و سرادق العزاء، و القليل من الهدوء، والأقلّ من الأمن.. بتركيبة عائلة تجد علاقاتها الداخلية ملّغمة بقدر ما هي الشوارع بالقلق، و الصدامات التي يفرزها العديد من الظروف.. بدءًا بالاختلافات الطارئة من الاحتلال الأمريكي، وما تلاه من إفرازات سياسية، و اجتماعية أعادتْ الابن الغائب «شهاب» ، وزوجته «صوفيا» بعد غربة لمدة 23 عاماً عن الوطن؛ ليبحثا وسط الوضع الموقوت عن فُسحة لإبداعهما الموسيقى، و الغناء، في محاولة لتعميق الأمل ولو بمثالية: كمنجة ضد عبوة ناسفة!
بضديّة يَكْسَبُها العنف في بداية المسرحية:

ا(( يستمر العزف بينما دوي المدافع يسيطر على صوت الموسيقى التي تختفي رويداً رويداً، يبقى القصف و زخّ الرصاص قوياً جداً.. )) ص 13

إلا أنّ الموسيقى تجد لها جولة انتصار في موضع آخر:

ا(( مع كل انفجار قنبلة يرد شهاب عليها بضربة من عزفه على الفيولن.. تتصاعد الانفجارات.. يتصاعد العزف.. شيئاً فشيئاً صوت الموسيقى يطغى على دويّ الانفجارات، وغناء صوفيا يصدح مع كورالات، و عزف جماعي. )) ص 126

على صعيد آخر تتواتر أبعاد الشخصيات الأخرى بما يخلقه واقعها من تناقض وصراع مع الداخل من جهة، والخارج الذي يبدأ تَغَلُّقُهُ من عتبة الباب، فمن الابنة «ساجدة»، ومحاولتها مقاومة بؤس واقعها بالتفرّغ الكلي للتعبّد، و انقطاع تام عما حولها، كمفرّ خلاص، إلى جانب العم «شاكر» (الأخ الأكبر لفيصل) بصراع لا يجد له فرج.. بين ما كان عمله في خدمة النظام البائد، و ما قد يتطلّبه ذلك من ثمن بعد زوال النظام، في وقت يرى أنه سيؤخذ بجريرة طغيان النظام دون ذنب منه فيما اُرتكب من جرائم كما يزعم..
مما يُغرقه في تخبّط جلي لمن حوله سرّب تفاصيله الكاتب بحذق ، خاصة فيما عكسه من صراع بين أمسه و يومه، في نوعية الملابس التي يخلط فيها المزيجين بتنافر يجعله في هيئة تخيف «صوفيا» التي تراه لأول مرة، وعائلته نفسها.. عدا عن سلوكه المتناقض الذي يوحي بذُهانٍ يرفض الإقرار به:

ا(( لستُ من النوع الذي يريد أن يعالج الأشياء بالعنف ، والاشتباك! لا ، أبدا..ً أظن بأنني صرتُ غير ذلك الشخص الذي تعرفونه! إني أمر بمرحلة اغتسال.... ورغم أن هناك تفاوتا في نظرة الآخرين لحياتي القديمة والحالية لكن الذي أريد لنفسي هو كثيرٌ من قليل لا يدركه الآخرون عني.. )) ص 48

ومن منطلق ذلك قد نجد الأم «فخرية» هي الشخصية الوحيدة التي تُحكم تماسكها بما يشبه أساس يشد أَزْرَ بيتٍ يؤول للسقوط.. بين زوجٍ يتنصل من مبادئه كأكاديميٍّ يدّرس علم الفلسفة ليتحوّل إلى عقاريٍّ برأس مال مشبوه تحصّل عليه إبان الفلتان الأمني عند احتلال بغداد.. إلى ابنة تُغدق في جفائها باسم التديّن، و حَمَوٍ (شاكر) تلوك تناقضاته تعاطفاً مع وحدته/ عقابه، وكأن ذلك كله في سبيل وَهْمٍ أكبر: جعل مصاعب الحياة الجلية أقل وطأ على الابن العائد، وزوجته؛ لضمان ائتلاف الأسرة من جديد تحت سقف مشترك، ولو بسعادة تُبلع على مضض لا تتأتى من داخل الأسرة نفسها بقدر ما الأمر أزمة تعم البلاد فقط .

ومن ناحية.. نجد أنّ الكاتب فعلياً ينجح في تخفيف توتر الجوّ العام للشخصيات بمنفذ حضور موسيقى «شهاب» ، وتداخلها مع غناء «صوفيا» ، وما يتصاعد معهما في بعض المشاهد من أداء لكورالات تجعل من أصوات الرصاص، و القذائف أقلَّ وقعا..

إلى جانب اللمسة الكوميدية في شخصية «طريف» صديق العائلة، والطبيب النفسي الذي يرى النصف الممتلئ، و الفارغ في الكوب على قدم المساواة، ففي أول لقاء لطريف مع شهاب وصوفيا يقول:

ا(( نحن سعداء جداً بعودتكم ، وبالموسيقى التي تريدون أن ترموها بوجه هذا الدويّ المرعب.. ربما تكون موسيقاكم دواءً لنفوسنا المتوجعة! )) ص 29

إلا أنه ما يلبث أن يصحو مارد يأسه مع تواتر الشد حتى يصرخ في حالمية شهاب فيقول:

ا(( في أي عمى نخوض! أتيتَ واضعاً في رأسك الكثير من الأحلام، أتيتَ وأنتَ تتطلع إلى حياة آمنة، إلى بشر أسوياء عن أي موسيقى تتحدث مع هذا العزف العدمي! )) ص 114


و من جانب آخر يتأتى للقارئ الانتقال بين مشاعره بما يوازي تناقض الشخصيات نفسها، فيجد نفسه على سبيل المثال متعاطفاً مع خوف «صوفيا»، و قلقها المتواتر من الوضع الذي لم تتخيل مجابهته.. إلا أنه قد يصل لمرحلة من السخط في حين آخر تجاه استسلامها المتوالي، و تفضيلها الإياب للغربة.
كذلك هو الحال تجاه «شهاب» من حيث التعاطف مع أحلامه ، و مشاريعه الموسيقية الحالمة، والتي حمّسته للعودة، حتى تعتري القارئ موجة غضب تجاه حالميّته، و محاولاته تجاوز المواقف المتأزّمة بين أفراد عائلته باللجوء إلى العزف. وهكذا دواليك تجاه جميع الشخصيات.

أما على صعيد المكان فقد برع الكاتب في رسم التفاصيل بما يساعد استحضار مكان حقيقي تقوم فيه الأحداث، و إن عاد القارئ لواقع أن النص يتخذ له المسرح كمساحة عرض، و هو ما حققه الأسدي من تنقلات بين وصف التفصيل، و من ثم الانتقال للكادر العام: بين مقدمة المكان، وعمقه، و توزيع البرديات التابعة للمشهد، وغير ذلك من التفاصيل المُحْكَمَة التي يتطلبها النص المسرحي بصفة عامة، و على صعيد المثال يصوّر الأسدي في مقدمة كتابه تفاصيل البيت الذي تدور الحبكة فيه بحس عال من الشيئية العميقة كما يلي:

ا(( بيت فيه لمسات من العتق ثرياته متدلية من سقف الهول، الذي يتكون من تقاطعات لشبابيك قديمة تكون النسيج النفسي والروحي للمكان، طاولة عليها أكوام من كتب قديمة، تلفزيون وكنبة، تتركب مع الشبابيك الخشبية الغارقة في القدم، بشكل متقاطع ومتداخل.... في الجهة اليمنى من الهول ثمة أرجوحة ترتبط بمدخل لحديقة واسعة وباب بيت كبير.... وهناك ستار ينزل من سقف المسرح عموديا، يفصل بين الهول ومقدمة المسرح، لتكون مساحة متخيلة تتحقق عليها المشاهد الخارجية.)) ص11

أما الزمان الذي تدور فه الأحداث ، والذي عنونه الكاتب ببغداد الآن، فرغم الآنيّة التي ترتبط بالوصف إلا أنها تعطي مجالاً مفتوحاً من الأعوام المقلقلة بين أفواجٍ من العائدين من المنفى، و الغربة الاختيارية، أو العائدين لذواتهم بعد الصحو من «سَكْرَة» ما بعد النظام الديكتاتوري إلى «فكرة» الاحتلال والنزاعات الداخلية!.. وصولاً لآثار جانبية للحياة في عراق اليوم ، إلا أننا بكثير من الأمل ، و الألم ربما - كما يرى الأسدي - يمكن أن يُحيا واقع أجمل0




منال العويبيل


الأحد، شعبان ٢٤، ١٤٢٧

ملف// لبنان.. عدوان ولّى وذاكرة لا تشيخ

الخميس 14 - 08 - 1427هـ
الموافق 17 - 09 - 2006م


هناك ما لا يُنسى ولا يُغتفر

لبنان.. عدوان ولّى وذاكرة لا تشيخ


الرياض - منال العويبيل





درج اللبنانيون عند حديثهم عن فترة الحرب الأهلية، و العدوانات الإسرائيلية المتلاحقة على استخدام جملة سرت كالمَثَل المتداول بين العامة: تنذكر ، ما تنعاد!. وحقيقةً يأتي ما سبق كعنوان رئيسي لفلسفة الإنسان من تدوين التاريخ ذاته - مآسيه تحديداً - بحيث يتسنى للأجيال الاطلاع على التجارب دون الوقوع في مهالكها، و فعلياً تأتي الحروب كمجال هو الأثرى لتوثيق الوقائع، خاصة من كون فواجعها مما لا يُنسى في المقام الأول، و لطالما كان للإنسان خيارات خارج محيط التدوين التاريخي البحت للتوجه للآخرين بما يجابه به النسيان، أو التجاهل لما حصل.

وقد دأبت الحضارات (الآشورية ، البابلية ، الفراعنة... .) على توثيق إنجازاتها القتالية في منحوتات المعابد، والتماثيل، كذلك نجد العرب الأقدمين يتجهون بحماس للشعر، والخطابة، بل و ابتدعوا أغراضا خدمت هذه الفكرة كشعر الحماسة، وما إلى ذلك، لغرض قد يتشبث بالتخليد، برغم الاهتمام الآنيّ به في تلك الفترة.

و عطفاً على ذِكْرِ لبنان نجد أنه لا تخفى حالته المتفردة على كافة الأصعدة، فقد شكّل البلد الصغير الرقعة أبهة حضور على المستوى الحضاري و الثقافي، في عجالة هزمت حربه الأهلية، وباستماتة إنسانية لدمل الصدع الطائفي الذي حاق به، فلبنان «غير شِكِل» من كل ناحية.. دينياً كأكثر بلد عربي يضم تعدداً طائفيًا (ما يصل لـ 17 طائفة) مقارنة بمساحته، و عدد سكانه، وثقافياً، من حيث ضمه لحضارات متعددة بمزيج يجمع الثقافة العربية، و الفرانكفونية، والإنجليزية ، بل والأرمنية. إلى جانب اختلافات الأجيال التي عايشت ثقافة ما قبل/ أثناء/ ما بعد الحرب ، والمهجر ... الخ.

و من المثير في فترة العدوان الإسرائيلي الأخير أن تعود للواجهة العديد من القصائد، و الأغنيات القديمة التي كُلِّلتْ لأوجاع سابقة، حتى لتبدو رائعة نزار قباني (يا ستَّ الدنيا يا بيروت) دُوّنت لتؤديها ماجدة الرومي للعدوان الأخير تحديداً ، كذلك تأتي غالبية التقارير الإخبارية بخلفيات موسيقية لترانيم فيروز من قبيل: سنرجع يوماً إلى حيّنا، من قلبي سلام لبيروت، بيقولوا زغيّر بلدي، وغيرها من النزف الوطني الحيّ.. حتى لتُختم المأساة برائعة الراحل زكي ناصيف: راجع يتعمر لبنان/ راجع متحلي وأخضر مما كان! فلأي مدى يأتي التقارب مع وجع يظل يحضر، و يستحضر معه مثل هذه الذاكرة الفنية لتبدو كجوقة مناسبة لكل الأزمان المجروحة!..
وهو ما يُحرج الجهود المتواضعة من الحاضرين في الساحة حالياً بالباهت مما يؤدونه، و كأنه إخماد لشعور الواجب لا أكثر.

على الصعيد البصري، و في ظل الطفرة الإعلامية التي تتسابق بلهاث لتغطية ما حدث، و عواقبه بهمّة في سبيل نقل حيّ.. وصل لهوس التقاط ما حصل بمقاطع أفقية عبر الأقمار الاصطناعية إنما يدلل على أن تعددية المصدر، والكيفية، واللغة حتى، لا تستر عن المتلقي خافية، وكمثال آخر نجد حضور التصوير الفوتوغرافي كشاهد عيان عبر المراسلين الصحفيين بصور وثّقت الأشلاء، والدم، والنار.
أما عن القادم من التوثيق الفني فلا شك أن الحركة التشكيلية بدأت بأبسط صورها قبل وقف إطلاق النار حين أخذت مواقع النازحين في لبنان تكتظ برسومات الأطفال التي تحكي رَوْعَهم0



جدارية الجورنيكا - بيكاسو




ومن ناحية، يجيء التوثيق اللوني كنصب لا يُغفل ما يحكيه ذو دور فعّال عبر الزمن، فعلى سبيل المثال نجد ما وثّقه الرائد الإسباني بيكاسو في لوحته الأشهر (الجورنيكا) التي خلّدت مأساة السادس والعشرين من شهر إبريل عام 1937 حين اُرتكبت مجزرة في يوم السوق في مدينة الجورنيكا الصغيرة التي تقع في إقليم الباسك الإسباني، ففي ذلك اليوم الرهيب قامت طائرات هتلر الحربية بقصف المدينة الوادعة التي خلت من الرجال كونهم جميعا في جبهة الحرب آنذاك، ولم يبق فيها إلا النساء والأطفال والشيوخ وبعض المدافعين عن المدينة، و قد استمر هذا القصف الوحشي لمدة ثلاث ساعات و نصف الساعة سُوِّيتْ فيها المدينة بالأرض، و ذلك كله لغرض دنيء تمثَّل في اختبار الآثار التدميرية الناتجة عن نوع جديد من القنابل الحارقة شديدة الانفجار على السكان المدنيين.
فبعد شهر من التحضيرات أنهى الفنان لوحته، و وُضعت في الجناح الأسباني في معرض باريس الدولي لتكتسب التقدير العالمي الواسع، ولتُعرِّف الجميع بأقسى ليلة مرّت على أهالي مدينة وادعة تدعى جورنيكا، و بالتالي كانت تلك طريقته في التوثيق.

وكمثال أقرب زمناً وإقليمياً تناقلت نشرات الأخبار فوجاً من طلاب الفنون الجميلة بمدينة بغداد بدايات الاحتلال، و هم يوثّقون ما حصل رسماً على جدران كليّتهم، فهل ترانا مقبلين على جدارية لقانا، أم نصب شاهق من أسس البيوت التي هُدمت في جنوب لبنان، (مع أن الإعمار سيكون أعظم لوحة بصرية لانبعاث الحياة، و هجيعة الشهداء).

وعلى مستوى بصري آخر كان يمكن التعويل على المجال السينمائي والتلفزيوني اللبناني ليحكي الكثير، فالتحرر الكبير من الرقابة التقليدية يفتح للسينما اللبنانية آفاقاً للتعبير يفخر بها دون ابتذال، أو مزايدات سياسية، فلبنان بلد لا تنقصه العقول الخلاقة التي درست أحدث الخبرات عالمياً، كما أن الرؤى الإعلامية لا ينقصها أفق رحب، لكن عدم وجود قدرات إنتاجية وتقنية موازية تواكب باضطراد هذه المحاولات تصعّب القادم ، ومع أنّ الفيلم العربي عامة يعيش أزمة تستلزم نوعا من «الحَجْر الفني» بحدة، إلا أنه كان يمكن التعويل على التعدد الثقافي والأيدلوجي في لبنان ليولد فرجة لأطروحات توثّق الأمر بأساليب شتى، و رؤى واسعة الفُرجة..

وهو ما يفتح تساؤلاً عن إمكانية توسيع فكرة المؤازرة الثقافية لتشمل محاولات مباشرة لدعم المطابع المتضررة، و الجهات التشكيلية، بل و حتى مؤسسات الإنتاج الفنية لغرض أسمى يجعل ما آلمنا مع أوجاع اللبنانيين غير عابر، أو مسفَّه ، بل يحضر بما يليق بقامة بلد كلبنان0