وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

الأربعاء، رجب ١٨، ١٤٢٨

تحقيق// «الجسد» كبطاقة حمراء في وجه الشاعرة السعودية


اليوم الثقافي
«الجسد» كبطاقة حمراء في وجه الشاعرة السعودية
هيا العريني: دخول الجسد في القصيدة بعفوية الشاعرة عمل إبداعي مرغوب


- الشاعرة بديعة كشغري -
منال العويبيل - الرياض

يراهن البعض على احتلال الجسد لاهتمامٍ كبير في الدراسات الإنسانية في القرن الحالي، خاصةً بعد إدراك المدارس الفكرية المختلفة لمدى تغييبه في الماضي، وإذا اعتبرنا الشعر «ضمنياً» كأحد الدراسات الإنسانية.. نركِّز عبر هذا المقام حول ولوج «الجسد» في شعر المبدعات المحليات، في ظلّ اعتباره عتبةً تذهب بسالكتها لخطٍ أحمر طوعاً أو كرها.
فمن منطلق ما سبق «ولأسبابٍ أُخر» غُيِّب الجسد في كثير من قصائد الشاعرات السعوديات، وعند إحالة ذلك لسؤال تُجيب الشاعرة هيا العريني (غيداء المنفى) عليه بقولها: ربما يعود ذلك إلى الحصار الذهني على الأنثى، ومحاولة إحباط أفكارها لحضيض الدونية في حالة الدخول للجسد، وربما الخوف من فتح بوابة تعجز عن إغلاقها.
بينما تنحى الشاعرة (بديعة كشغري) لمزيدٍ من التفصيل، فتقول: إذا سلّمنا بأنَّ الشعر نوع من الخلق الفنّي الذي يتواشج فيه الوعي واللاوعي، كما يمتزج فيه الإدراك الذّاتيّ/ الآنيّ بالجمعي/ التراكمي، فإننا لا نستغرب غياب الجسد في قصائد المرأة العربية عامة والسعودية خاصة، لارتباط كتابة القصيدة بالواقع الاجتماعي المتحكَّم في نظرة المبدعة لذاتها، والممارس رقابته على هذا الإبداع منذ القدم.
أما الشاعرة (أمل الفرج) فتؤكد على ذكورية المجتمع كسبب للغياب، تقول: الانطفاء الجسديّ في شعر الأنثى له أسبابه في مجتمع ذكوريّ كعالمنا العربيّ برغم الانفتاح، ولكنْ يبقى هذا الجانب للأنثى عموماً جزءاً من نفسها، فنراها تحتفظ كثيراً بتعابيره الخاصّة لنفسها, ولا تُظهرها شعرياً.
وعلى ذات العائق الاجتماعي ترى الشاعرة (أسماء الزهراني) أننا نحيا في إطار اجتماعي صلب يصعب القفز خارجه، بصرف النظر عن طبيعة هذا القفز، ومشروعيته.
الشاعرة (هيلدا إسماعيل) تركِّز على ضغوطات المجتمع، حيث تقول: أظننا محكومين بمعايير اجتماعية راسخة لا تقبل الجدل، بينما تعدّ أكثر خطورة من شائعات سرعان ما تنطفئ؛ لأنها ببساطة تعمل ضدّ نفسها، خاصة حين (تهمِّش) جزءاً كبيرا من اللغة، و(تهشِّم)جزءاً آخر منها.
أما الشاعرة (أمل القثامي) فترى أن النص الجسدي لا يعني أنَّه فضائحي، بل يخلق فضاءه الجمالي في ذاكرة القارئ؛ لأنَّ الحياة وكل حركاتها نتاج جسد، فالمتلقي يميل إلى تلك التعبيرات الجسدية، كونها تترك له مساحة خصبة من التأويل. النص الجسدي هو في الحقيقة بؤرة الاهتمام الشعري منذ القِدم، والشعر الجاهلي ارتكز على ثمار الجسد الإيحائي والحسي، وهو من أعظم الشعر إلى وقتنا الراهن. وأستغرب الآن هذا الاستنكار لحضور مفردات الجسد، ولاسيما إذا كان المبدع أنثى!.
أما الشاعرة (كوثر الأربش) فتفسِّر رأيها بنظرة ذاتية: الجسد بالنسبة لي مجسٌ للحالة النفسية.. منحنى ينخفض، ويصعد للتعريف عن حالة الروح، والوجع، والفرح.. ولا يمكن أن يكون مجرد معرضٍ لصور مخبَّأة. جسد المرأة مثال تعود له الصور, فالشمس الصاخبة مثل جسد دافئ.. وهكذا.
*
*
*
حلالُ السرد.. حرامُ القصيدة!
يكاد يُجمع المختلفون على هذا الطرح أنَّ حضور الجسد في القصة أو الرواية غالباً ما تُلتمس له أعذار سردية، بينما يُعاب حضوره في الشعر حد المهاجمة.
ا(الخوف) سببٌ يتصدر رأي (هيا العريني) التي علَّقت: الخوف من حضور الجسد في القصيدة ربما يعود لكونه (الرمز المثير للغرائز)؛ لتفرّده في القصيدة بمضامين ربما تكون ضبابية، بحكم الحرص على انتقاء مفردات تحكمنا في القصيدة، أمَّا في الرواية؛ فبالإمكان بناؤه بجملٍ أكثر عفوية وإيضاحا.
أمّا (هيلدا إسماعيل) فتبدد الشكوك حول جوازية ذلك، تقول: جمالية النص الشعري ترتكز على المعنى الاحتمالي الذي لا يقدّم إجابات قطعية. قد تكون نوعاً من لعبة التخفي والانكشاف الخاضعة للابتكار، والمتمسّكة بتجربة لا تعطّل الحواس، ولا تبتذلها، ولا تحبسها داخل رؤية مغلقة. فالشعر الحقيقي هو الذي يَخضّنا شعورياً، ويؤهب خلايانا لحدوثه، الذي لن يعبر «الجسد» من خلاله محايداً، مبتذلاً، إنما برواز يتعانق مع الروح بفنيّة متكاملة.
أمّا التبرير الذي يحدث في السرد فتفسّره (أمل الفرج) بقولها: المنجز السرديّ يُعنى باستمراريـّة الوصف وتطويق التفاصيل، فلا تضره هيمنة الجسد أو غيرها، أمّا الشـّعر فأجمله معتمد على الرمز والومض!.
ا(أسماء الزهراني) تجد هذا نتيجة لمفهوم خاطئ تأتى مع رواج الكتابة السردية حاليا.. فالشعر فنّ النخبة، والرواية فن الجماهير، لكنْ لا علاقة لهذا بالتمييز العنصري بينهما فنياً، التمييز نسبي يتعلق بظروف التلقي، لكنْ لكلِّ فن قوانينه.
ذاتية النص الشعري تجدها (بديعة كشغري) أحد الأسباب المباشرة مقارنةً بالسرد: فحضور الجسد في السرد النسائي نلتمس له الأعذار، أما في الشعر فالإدانة مباشرة، لأنَّه أكثر العمليات الإبداعية خصوصية، وغالباً ما يتحدث الشاعر (بضمير المتكلم). هذا لا يعني وجود مبرر لمن ينظر هذه النظرة السطحية لوظيفة الشعر.
*
*
*
بين عرضية الغياب وتعمّد التغييب
وحول ما إذا كان غياب النص الجسدي مقصوداً من قِبل الشاعرة.. تتراوح رؤى المشارِكات إثباتاً أو نفيا، حيث رأت (بديعة كشغري): إنَّ الأمر انعكاس للنظام الاجتماعي الموروث الذي يربط «الجسد» بالجنس، ويربط الجنس بالشرف بمجَّانية جاهزة، وهو جزء من فخ «التابوهات» التي تنكر على المرأة حقها الإبداعي في التعبير عن جماليات العلاقة التي يرتقي فيها الحسي والروحي. هكذا عندما تكتب المرأة القصيدة عليها التخيل أنها في «غيتو» جسدي عازل يحظر عليها التعامل مع المدركات الحسية، مما يؤثر سلباً على فنية القصيدة. ويؤدي لشرخ جمالي وإنساني في التجربة الحياتية.
ا(لا شك أنّ المرأة ذات وعيّ مختلف لصياغة الشـّعر الجسديّ) هذا ما قالته (أمل الفرج) التي تردف: وأراها _أي المرأة_ تتقنه بجموحٍ لو أرادت, ولكن طبيعة عالمها، والمنبت الاجتماعيّ يجعلها تركن إلى تقصّـد غيابه.
ا(أسماء الزهراني) ترجّح تعمّد الغياب وعرضيته، فترى أن الأمر مزيجٌ من هذا وذاك، فهي تفعله بتأثير الإطار الاجتماعي الذي نشأت فيه. لكن ينبغي أنْ يظل الأمر خياراً فنياً تملكه الشاعرة دون خشية للتصنيف.
ومن زاوية التجربة الخاصة تطرح (أمل القثامي) رؤيتها بقولها: الجسد في قصيدتي يأتي من رؤيا معرفية ثقافية لا أهتم فيها بتفصيلاته إلاّ في سياق علاماتي/سيميولوجي يخدم رؤيتي التي أرومها. وبما أني أحب أن تكون لي خريطة شعرية مميزة، فإني أميل لاستعمال (النص الجسدي) في كثير من عباراتي الشعرية بكل أبعاده الثقافية والإيحائية والأسطورية... .
أمَّا (هيلدا إسماعيل) فتنحى لتفسير مغاير يرتئي أن الجسد لا يلبث أن يطفو بعفوية على سطح القصيدة، تقول: جميع الأفكار المُعبّر عنها شعرياً مهما أوغلت في التجريد والمواربة.. لا بدّ من استعانتها بالأعضاء، التفاصيل الصغيرة... ولكنْ إنْ أصبحت «لغة الجسد» في العُرْف الحديث «عيباً»، سيصل بنا الأمر لاختراع قصائد تتحدث عن كل شيء إلاّ ما يتعلق بنا، عن مخلوقات فضائية مثلاً ببنيَة فراغية، وعين واحدة في منتصف القلب، لم نرها، ولم نولد بها!
أمّا (هيا العريني) فتفسر الأمر بقولها: في بعض قصائدي ربما يكون غياب الجسد حالة لاوعي، وليست مقصودة.
*
*
*
ا«الجسد» في فخّ الإباحيّة
يمكن للمتابع استشفاف نظرة نمطية تعدُّ النص الجسدي نوعاً من الأدب الإباحي (الأيروتيك)، وهو ما ترفضه (بديعة كشغري)، تقول: هذا الاتجاه الجديد في قصائد الشاعرات يتجاوز التنميط، فهو ينطلق من وعيهن بعملية الإبداع التي تستجلي الجوهر، وتستبطن العقلي، بما يمكنها من صياغة الحالة الشعرية المدغمة للروح والجسد مع العناصر الكونية الأخرى. والشاعر الجيد هو من استطاع اكتناه كل هذه العوالم بأبعادها «السايكو جسدية».
رؤية (هيا العريني) ترمي لمسئولية مشتركة عززت النظرة النمطية، فتقول: (حين يسخَّر الجسد في قصيدة المرأة في بناء مفردات إباحية لإثراء غرائز ممجوجة ولفت الانتباه بتصنّع مقيت، فهذا له قرّاؤه، غير أنَّ دخول الجسد في القصيدة لاكتمال جزئياتها بعفوية ونضج الشاعرة هو عمل إبداعي مرغوب.
أمّا (هيلدا إسماعيل) فتنحى لتبني ما قد يبدد هذه النظرة، تقول: إذا كان «الجسد» أصبح بفعل المغالطات مؤخرًا وجهاً لعملة «البورنو/Porno» (الأدب الخليع)، فمن الواجب علينا كمثقفين إعادة «طهارة» خُلِقَ بها ولأجلها، ونراهن على المتلقي الذي لا يتجاوب مع النصوص من منطلق بدائي، بل يكون قادراً على إنقاذ ما تبقى من أحاسيس ضمرت تدريجياً نتيجةً لكل ما يتعرَّض له الأدب من هزّاتٍ نابعة من وسطٍ يروّج للإثارة عبر إعلامنا، وليس أمامنا من بديل غير التأكيد على الفروقات الحقيقية بين «الجنس» كسلعة هابطة تروّج للنص، وبين «الجسد» بمعناه الإنساني.
ومن منحى يغلِّط النظرة النمطية المذكورة تقول (أمل الفرج): الإباحية لا تكوّن أدباً. الجسد والروح هما فلسفة متكاملة للحياة, وآيتان من آيات الجمال، ولابد أن نحسن توظيف التعبير عنهما بعيداً عن التفسّخ.
أمَّا (أسماء الزهراني) فتقلل من أهمية الفكرة بقولها: المسألة في نظري نسبية، فمتى ما ظل الأمر في حدود الفن والجمال، لن يدخل في حدود الأيروتيك.
ا(أمل القثامي) تعوّل على توعية المتلقي، تقول: كشاعرة أطالب القارئ بتوسيع مداركه، وتقبّل (شعرية الجسد) إذا كان لها سياق هادف؛ لأن الجسد له امتداد تواصلي مع الكون الممتد، واستغناءنا عنه محال.
*
*
*
ا«الجسد».. في قلب الشاعرة
وبمنأى عن التفاسير القادمة من خارج الناصّة نستجلي رؤى الشاعرات عن حضور الجسد في قصائدهن، لتوضح (هيا العريني) بقولها: حضور الجسد في قصائدي يأتي لخدمة المعنى واكتمال القصيدة، وليس لي مآرب أخرى.. فأنا لدي سقف قريب من قامتي لا يمكنني تجاوزه حفاظا على سلامة رأسي ومبادئي.
بينما ترى (أسماء الزهراني) الأمر يعود للقارئ الذي يجد في حضور الجسد جرأة، أما لدى الشاعرة فيُفترض ألا يخرج عن كونه فناً وحسب. وتضيف: أومن بأنَّ الذوق والجمال لا يتعارضان مع الفن، فإذا خرج الأمر عن هذا الثلاثي تعدَّى السقف.
ا(أمل الفرج) تُشرع الباب لكل الاحتمالات، فتجد حضور الجسد ينصب في الجرأة، حرية التعبير، المغامرة، وأكثر! إضافة إلى عدم وجود حدٍّ للإبداع إن كان عفيفاً، فالتماهي مع الجسد في شعر الشاعرة لابد أن يكون متوازناً مع روحها، وأن تتنامى الأنا الأنثويّـة المشربة بالإبداع لتجد لها متنفساً خارج حدود الرجل المنغلق على نرجسيّـته، والمتغني بجسدها لتُنجز لها طابعاً تعبيرياً خاصّـاً ذا منظومة من القيـّم الأخلاقيّة والجماليّة.
أما (بديعة كشغري) فشددت على الخطوط الرفيعة بين الابتذال والفنية، حيث رأت: لا أميل إلى وضع «ضوابط» عامة أو خاصة بالشاعرة حول كيفية التعبير عن حضور الجسد. ولكن في اعتقادي أنَّ الشعراء يجب أن يرتقوا بتقنياتهم الفنيّة لاسيما في قصائد الغزل والوجدان. ويجب الانتباه إلى الخيط الرفيع بين الغزل والعهر (في قصائد الرجال خاصة)، فأنا ضد الغزل المبتذل بشكل عام.
وتفسر (كوثر الأربش) حضور الجسد في قصيدتها بفلسفة خاصة، حيث تقول: الجسد آخر محطة يبدأ بها عنصر الحب امتزاجه بالروح. الجسد ليس دائماً حاضراً بكله، ولا أميل لذكر أعضاء الأنثى بمسمياتها, أعتبر ذاك مسؤولية الراغبين بالوصول للقارئ بأقل تكلفة. أحب استعارة الطبيعة لأسمي بها كائنات أنثوية غاية في الخصوصية. ولا أذكر أنني أوردت الرَجل كجسد إطلاقا.
*
*
*
*
*
*
على مقصلة النقد !
في قراءة لرؤى المشارِكات في الطرح ينحت الناقد (حامد بن عقيل) ملامح نهائية لحضور الجسد في القصيدة من وجهة نظر الشاعرات يدشنها بقوله: تشارك في هذا الطرح سبع شواعر، ويمكن البدء بقراءة استجابة (هيلدا إسماعيل، وأمل القثامي، وكوثر الأربش). فقد ذهبت الأولى إلى اعتبار المعنى الاحتمالي هو ما ترتكز عليه جمالية النّص الشعري بدلالة واضحة على وعيها بفرادة اللغة الشِعرية في التعبير، وخطورتها كأداة تعتمد على الإيحاء أكثر من التصريح. وهو ما يجعل «الشِعر» عرضة للتآويل المجتمعية الخاضعة لفكرٍ مسبق لا بد من أخذه في الحسبان عند التعبير في ظل ما طرأ في العرف الحديث على «لغة الجسد» من تغيّر أدخلها دائرة العيب.
أما (أمل القثامي) فيبدو أنها لا ترتهن إلى خصوصية أنثوية تصطبغ بها نظرتها للتعبير الشِعري، فالجسد لديها هو الحياة. فتخفُّ في مشاركتها وتيرة الإدانة لمجتمعها الذي يكاد يجمع طرح الشواعر المشارِكات على أنه أحد أهم العوائق الحادة من التعبير الشِعري لدى المرأة. فتتماهى مع هذا المجتمع الذكوري، وتعيد، بوعي أو بدونه، إنتاج مقولاته والتصالح معها.
بينما ترى (كوثر الأربش) أنَّ لا ضرورة لإقحام الجسد داخل النّص إلا إذا دعت الحاجة، في إشارة واضحة إلى أنها تستخدمه كأداة للتعبير عن مرجعية يتم الركون إليها كأصل له ما يقابله في الحياة، وبهذه الصور الممثلة للجسد يمكن الاستغناء عن مسمياته الضّيقة التي لا يلجأ إليها إلا من أراد الوصول إلى الجماهير بأقل جهد. وهي نظرة فريدة فيما يتعلق بالفن الشِعري ووظيفته، إذ لم تسعَ لنفي أو إثبات حضور الجسد في النص الشِعري قدر سعيها لبيان فاعليته في استجلاء عوالم موازية وممثلة له في آن.
وفيما يتعلق بالشواعر الأخريات فتُجمع (غيداء المنفى، وأمل الفرج، وأسماء الزهراني) على أنَّ الحصار الذهني الناتج عن تسلّط ذكوري هو السبب في تغيّب الجسد عن قصائد الشواعر، بينما ترى (بديعة كشغري) أنَّ نظرة المبدعة لذاتها هي السبب في الغياب، دون إغفال الإشارة إلى أن هذا نتيجة لواقع اجتماعي مؤثر يربط الجسد بالجنس، فهو الفاعل في الغياب اللاواعي للجسد عن قصائد الشواعر، فيما تنقسم البقية حول وعيهن بحضور أو غياب الجسد في نصوصهن، ولعل في ذلك ما يدل على تعرض الشواعر بشكل دائم إلى فعالية تجريبية لا متناهية فيما يخص موقفهن من التعبير عن الجسد في منجزهن الشعري، ولعل هذا الارتباك الممتد ناتج عن عدم وضوح التحولات الاجتماعية بخصوص هذا الموضوع تحديداً، أو نظرته لحرية التعبير بعمومها، وخصوصاً لدى المرأة، ما جعل تجاربهن الكتابية تبدو تجريباً لا تهدف إلى الخوض في مناطق تعبيرية جديدة، وإنما اختبار مدى القبول الاجتماعي لهذا التجريب.
أما فيما يتعلق بالمحور الذي يقابل بين حضور الجسد في السرد والشِعر ارتكزت استجابات الشواعر الأربع على الرمزية التي يختص بها الشِعر عن الفن السردي، كما أشارت (الزهراني) إلى نخبوية هذا الفن مقابل جماهيرية السرد. وهذا ما يدل على أن الشواعر على وعي كبير بأنَّ رمزية الشِعر كامنة في ثبات الزمن داخله، إذ لا يمكن أن يحتوي على تفصيلات في القول تمنع المتلقي من إساءة فهم الرمز عند خوض غمار البوح بما لا يُحبّذ المجتمع الشرقي الخوض فيه.
لقد اختار القرآن الكريم القصة لسرد قصص الأمم لاشتمالها على الحركة الزمنية، بينما لو أريد لهذه القصص أن تروى بأسلوب شِعري لدخلت دائرة الأسطرة، وهو ما جعل الشِعر في منأى دائم عن التفصيل والاتكاء على الرمز. إلا أن تفسير الشواعر لنظرة المتلقي لا تنفصل عن البنية الذهنية الاجتماعية المتزمتة في نظرتها للرمز الجسدي في قصائدهن، والتي وصفتها (الزهراني) بأنها نظرة يغلب عليها الجرأة، فيما رأت (الفرج) أنه فضاء مفتوح للتآويل المجتمعية المتماهية مع نظرة مسبقة لإبداع المرأة.
وهذا ما يجعل المشارِكات يكدن يجمعن على رفض أي ضوابط للإبداع الشِعري النسوي بمعزل عن السقف الاجتماعي العام أسوة بالرجل. وقد جاءت استجابات الشواعر حول ربط النص الجسدي بالأدب الأيروتيكي متشابهة الدلالات رغم تناقض الاستجابات، إلا أن اختلاف الاستجابات لا ينفي أن الدال العام لها يشير إلى أن شاعرية الأنثى، كما ينظرن، لا تكمن في بنائيتها اللغوية، ولا في الصور الشِعرية المستقاة من خلال حضور الجسد، ولكنها شِعرية كامنة في الموقف الاجتماعي والنفسي الذي نجد المرأة تنحاز إليه في الغالب، ما يجعلها عرضة للتناقض المعرفي بين نظرتها الاجتماعية ومنجزها الإبداعي، وعرضة للتناقض الوجداني بين كونها جزءاً من منظومة اجتماعية أخلاقية ذات ضوابط هلامية غير واضحة المعالم، وبين كونها ترى في ذاتها ندّاً للرجل في تعبيره عن الجزء الحسي المتعلق بهذه التجربة.
ويختم بقوله: إنَّ مثل هذا الطرح في عمومه، دال على وجود ارتباك في نظرة الشواعر إلى وظيفة الجسد في النّص الشِعري، وعلى وجود تناقض بين ما يطرحنه تنظيراً، وما يمارسنه أثناء إنجازهن لنصوصهن الشِعرية، ولعل في هذا ما يؤكد على أثر «المسكوت عنه» بعمومه، ومنه الجسد، في توجيه الإبداع الشعري النسوي لمحاولة التعبير عنه في حدوده الدنيا، أو السعي لتبرير غيابه نتيجة لوجود بنية ذهنية مجتمعية معيقة لحرية الإبداع، ولا تقبل اختراق سقفها الأعلى، أو حتى الاقتراب منه.