وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

السبت، محرم ١٠، ١٤٢٩

حوار// الناقد وعضو مجلس الشورى عبدالله الفيفي (2-2)


الناقد وعضو مجلس الشورى عبدالله الفيفي (2-2) :

جدليّاتنا الثقافيّة تتأخّر لأننا نبدأ مقلّدين متأخّرين

أهم ما يواجه أكاديميّاتنا القيود الإداريّة والماليّة





حاورته : منال العويبـيل

إن التلقائية التي يتجاوب بها د.عبدالله الفيفي تجعل محاوره رهن الاستزادة من التساؤلات، وليظل هو قيد الأريحية في الرد بكل ما يبعثه من تعمّق عرَضاً أو قصدا، وعبر هذا المقام نستكمل معه الجزء المتبقي من هذا اللقاء.


-1-
«إن شكل القصيدة كامن في قوانينها ونظمها، لكن روحها كامنة في جمالها الذي يحرك روح الجمال فينا»

_ طاغور_


يقع العديد من المتابعين في لبس شائع يتمثل في نظرهم إلى أن قصيدة النثر تقدم نفسها كبديل للقصيدة الموزونة ووريثة غير شرعية لها. وفي منتصف العام 2006م عُقد في بيروت مؤتمر بمناسبة مرور نصف قرن على ولادة قصيدة النثر، والذي طالته بعض الانتقادات التي رأت أن العرب ما زالوا يتعاملون مع قصيدة النثر وكأنها طازجة النشأة، ومؤكدةً أنَّ العالم عَبَر المشهد الشعري مرحلة ما بعد قصيدة النثر! فلماذا علق المشهد العربي في زحام متأخر للتنظير أو التبرير؟ ليجيب د.عبدالله : «ماذا بعد قصيدة النثر؟ قصيدة اللاقصيدة، أم قصيدة اللا لغة ؟ في الجنس الشعريّ لا ساحل أبعد من نزول القصيدة عن صهوة الشِّعر إلى النثر، لتصبح القصيدة : قصيدة نثر، لا قصيدة شِعر.
وفي رأيي أنه من الاختزال اعتداد المكوّن الموسيقي في الشِّعر مكوّنًا صوتيًّا فقط. ولا ينفصل الصوتيّ عن الدلاليّ في أي لغة، وأظهر ما يكون التلاحم بينهما في لغة موسيقيّة بطبيعتها كاللغة العربيّة. أمّا التأخّر في جدليّاتنا الثقافيّة بصفة عامّة؛ فلأننا نبدأ مقلّدين متأخّرين، متلقّفين ما يتناهى إلى أسماعنا فقط، حسب إمكانية السمع لدينا على الاستقبال، فيما لا تنتج حناجرنا بعض أصواتها؛ لذا قد يتأخّر بلوغ الصوت، فنظلّ في دوّامته، وإن انحسرت موجاته من الأثير.
لكن أنْ يوجد الجَدَل خير من أن لا يوجد، فهو دلالة حيويّة فكريّة، إنْ كان جَدَلاً، لا محض رفض أو قبول. وجود الجَدَل الصحّي مؤشر على سلامة الجسم الثقافي، والضِّيْق به مؤشّر على تعطّل الجهاز المناعي أو جهاز التمثّل الغذائي في ذلك الجسم».
.
.
ومن جانبٍ موازِ نجد أن د.عبدالله الشاعر لم يخض في قصيدة النثر، فهل ذلك من باب أنه لم يجد فيها ما يغري بالتجربة. يقول : «دعينا نتفق أوّلاً على شِعريّة قصيدة النثر. قصيدة النثر- كما أراها - تجربة نثريّة لا شِعريّة. (سوزان برنار) نفسها في مسألة قصيدة النثر وقصيدة الشِّعْر، تخلص - في آخر سطرٍ من كتابها - إلى أن قصيدة النثر ليست بتجديدٍ للشكل الشِّعريّ، بمقدار ما هي ثورة احتجاجٍ ونضالٍ فكريّة للإنسان ضدّ مصيره.
كما تؤكّد أن قصيدة النثر تلبّي حاجات فكريّة لا شِعريّة. ولا ينتقص كونُ قصيدة النثر نثرًا من قيمتها الممكنة، إلاّ إنْ اعتقدنا أن الشِّعر بالضرورة وفي كل الأحوال أعظم من النثر. وإذن لا رهان على أنّي لم أخض، أو لن أخوض في هذا الشكل من الكتابة، ولكن الرهان هو هل سأسمّي ما أكتبه باسمه التقليدي : قصيدة نثر؟ هل سأفرح بأني من أتباع هذا الحزب لا ذاك؟ لقد بات مصطلح قصيدة النثر تسميّة تقليديّة - كما رأيتُ في كتابي «حداثة النصّ الشِّعري»، أو في بحثي حول «قصيدة النَّثْرِيْلَة»، الذي ألقيته في مهرجان عكاظ الصيف الماضي، أو بحثي بعنوان «مآزق الشِّعريّة بين قصيدة النثر والقِصّة القصيرة جدًّا»، الذي أسهمت به في ملتقى نادي القصيم الأدبي، في شوّال الماضي. بات مصطلح (قصيدة النثر) مستودعًا بشتات من النصوص، ممّا يُسمّى (القصّة القصيرة جدًّا)، أو بعض شِعر التفعيلة، أو الخواطر العابرة، أو، أو... لأنها إذا أُسقطت المعايير الفنّيّة التي ظلّت تميّز جنس الشِّعر عن غيره - منذ آدم إلى أيّامنا - لن يستطيع أحدٌ بعدئذٍ أن يقول لكِ : ما الشِّعريّة ؟ أين تكمن ؟ أين العلامات الحدوديّة بين الشِّعري والنثري ؟ وعندئذٍ ستخضع الأمور لاستمزاج شخصيّ، أو ذوقٍ عامّ غير مدرّب، أو بعيدٍ عن الوعي العلميّ بفوارق الأجناس الأدبيّة. لقد قلتُ قبل هذا : إن قصيدة النثر تقتل نفسها حين تتزلّف الشِّعر، أو ترضى أن تمسي في عالم الأدب مُلْصَقًا شِعريًّا، لا أكثر ولا أقلّ».


-2-

«إذا لم تحاول أن تفعل شيئاً أبعد مما قد أتقنته، فلن تتقدم أبدا»

_رونالد اسبورت_


في وقتٍ سابق من العام 2007م، طرح د.عبد الله الفيفي دراسة تناول فيها شكلاً جديداً تبنته نصوص شعرية كلون جديد، يقع بَيْن قصيدة النثر والتفعيلة تحت مسمى «قصيدة النثريلة»، والمنتظر نشرها في إصدارٍ قادمٍ له، فهل ستفتح الباب لجدلية البدايات والريادات محلياً وعربياً ؟ وما أبرز نقاط الجدل التي قد تثيرها بنظره ؟ يجيب : «أنا سعيد بتلك الأصداء، على الرغم من أن الدراسة لم تُنشر بعد. إلاّ أنني في ذلك المقتحم البحثي لست من المنشغلين بالبدايات والريادات، بمقدار انشغالي برصد الظواهر. ذلك لأن الخوض في البدايات والريادات تضييع للوقت والجهد في جدليّات بلا طائل، ولا يمكن في مجال الفنون والآداب الجزم فيها بنتائج علميّة، فالأشكال الفنيّة تمرّ بتراكمات من التجارب، ومخاضات ومؤثّرات واسعة ومتشعّبة. فهل قصيدة النثر نفسها يمكن القطع بجدّتها على الأدب العربي ؟
ما أطلقتُ عليه أنا (قصيدة النَّثْرِيْلَة) - في اجتهاد اصطلاحيّ - هي عَتَبَة شِعريّة نثريّة، أجمل ما فيها أنها تمزج نوعين أريد لهما أن تقوم بينهما الفواصل والجُدُر، أو أن تُسمّى الأشكال البنائيّة فيهما بغير أسمائها. إنها قصيدة الشِّعر نثر، أو (النثر- تفعيلة). وهي شكل تلفت إليه نصوصٌ تصنّف عادةً في قصيدة النثر. غير أن إشكاليّة بعض كتّابها أنهم لا يريدون أن يعترفوا لأنفسهم بهذا الإنجاز، بل بعضهم يتبرّأ من ذلك، وكأنه يتبرّأ من نفسه؛ لأنه لا يريد إلاّ أن ينضوي ضمن قطيعٍ معيّن، لا يطمح إلى التفرّد ولا إلى استقلال الصوت، أو الإنجاز النوعيّ. وهذه من مفارقات حداثتنا المقلِّدة».


.
بالتالي، من الممكن اعتبار أسلوب «قصيدة النثريلة» نكوصاً غير صريح للنهج التقليدي للشعر (عبر حضور التقفية) ، وقد يُرى في الوقت ذاته ضرباً جديداً من التجريب.. بين الأولى والتالية كيف يرى ذلك د.عبدالله ؟ يقول : «في قصيدة النَّثْرِيْلَة تحضر التفعيلة قبل التقفية. وليس هنالك نهجٌ تقليديّ في الشِّعر الذي يستحق هذا الاسم، هناك شِعر أو لا شِعر. فإن كان المقصود بالتقليديّة بناء القصيدة العربيّة الخارجي، فليس هو مُحَدِّد الحداثة والتقليد، فكم من قصيدة موزونة مقفّاة أكثر حداثة (جوهريّة) من قصيدة تفعيلةٍ أو نثر.
نعم، هناك تقليد في البناء الظاهري للقصيدة العربيّة، بيد أن هناك في المقابل تقليدًا داخليًّا وخارجيًّا للقصيدة الغربيّة في الشِّعر الحديث! فهما تقليدان، بأيّهما اقتدينا مذهبيًّا ضللنا سبيل الإبداع، ولقلّما يخرج عنهما الشاعر العربيّ الحديث، إلاّ أنه يَعُدّ تقليد الآخر هو التجديد، وتقليد التراث هو وحده التقليد! أوليست قصيدة النثر نفسها تقليديّة ؟ أزعم أنها تقليديّة لتراثٍ عربيّ وغربيّ في آن، ولا جديد فيها يستحقّ الهالة المحاطة بها، إلا مفارقة الاسم (قصيدة / نثر)، فكيف نعدّها خطوة إلى الأمام لا نكوصًا، وأنتِ قد تجدين نماذج منها في ضروب النثر الفنّي العربيّ المختلفة، من «فنّ التوقيعات»، إلى «إشراقات الصوفيّة»، وحتى في بعض «سجع الكُهّان»؟!
أمّا قصيدة النَّثْرِيْلَة ففيها اختلاف نوعي، حسب تقديري، وهي على ضربين، ضرب تجريبي، ينتجه الكاتب عن وعيٍ بالفوارق بين التفعيلي والنثري، وضرب تلقائي، يتجسّد فيه الصدق النفسي، الخارج عن التقليديّات المشار إليها، أو بالأصحّ الخارج عن التقيّد بأيّ منها حذو القُذّة بالقُذّة؛ إذ يبدو أنه لا مفرّ من تقليدٍ ما في الإبداع عمومًا ! وهذا ما لفت نظري وحسّي في هذا الشكل غير المسمّى من قبل، أعني : قصيدة النَّثْرِيْلَة. وأراه هنا والآن ثمرة المخاض العربي لأكثر من نصف قرنٍ بين القصيدة العربيّة وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وإنْ وُجد كالعادة من يودّ وأد هذا المولود، أو الحيلولة دون منحه شهادة ميلاد، حتى من قِبَل كتّابه أنفسهم. إن قصيدة النَّثْرِيْلَة ليست نبتًا شيطانيًّا، بل هي القصيدة العربيّة تستعيد بكارتها، بعيدًا عن ضوضاء التمذهب».


-3-

«إن الدعوة لانقلاب في فهم الحداثة الشعرية العربية تقتضي الدعوة لانقلاب مماثل في نقدها»

_أدونيس_

يجد المتابع لمجال الدراسات والبحوث الخاصة بالشعر اتجاه العديد من الأسماء الأكاديمية لتناول التجارب المتقدمة من العصور العربية (الجاهلية، والإسلامية الأولى) وبرغم حرية البحث العلمي واختيارات الدارس نتساءل عن تغييب المراحل الحديثة بوضوح، هل تراها ضغوطات أيديولوجية، أو أن التجارب الحديثة عبر المشهد العربي لم تجد لها فسحة في الأطروحات المحلية بما يفي ؟ يجيب د.عبدالله : «ليس تقليلاً من شأن التراث وأهميّة دراسته أن نعترف بتقصيرٍ ما في دراسة الأدب الحديث. دراسة التراث ليست ترفًا، بل هو أمر أشدّ إلحاحًا، وأكثر حضورًا، في مختلف الثقافات، لا في الثقافة العربيّة وحدها؛ بما هو أساس التكوين، وامتداد الجذور. قد لا يكون الشأن مع المراحل الحديثة «تغييبًا»، فالمؤتمرات، والندوات، والبحوث عن الأدب الحديث أكثر اليوم منها عن الأدب القديم. أمّا الأبعاد الأيديولوجيّة، فحاضرة بلا شكّ في كل مكان، وإلاّ لما غابت التجربة الحديثة من المناهج التعليميّة العامّة، وقلّت في الدراسات الجامعيّة والعليا. مع عدم إغفال اشتراطات علميّة موضوعيّة هنا، تتعلّق بالبُعد الزمني والحضور الكمّي والنوعيّ، لا بدّ من توافرها لوصول التجربة إلى مستوى الصلاحيّة لتناولٍ أكاديمي» .

.

ومن ناحية مقاربة، نسأل د.عبدالله عن سطوة الأيديولوجيا التي خنقت الشعر في ذروة حداثة النص الشعري السعودي أين تقف من شعر اليوم ؟ وهل تحولت نوعية العلاقة من الصدام للحياد ؟ فيقول : «الأيديولوجيا إرث مشترك، تراثي وحداثي. ولا يمكن أن تخنق الشِّعر الحقيقي - وغير المؤدلج بدوره - والتاريخ شاهد على هذا. كما أن الحداثة لا ذروة لها، إنْ كانت حداثة، لا موجة عابرة. ربما كانت الأجواء الآن أفضل منها قبل عشرين سنة، لكن هذا مؤثّر ثقافي أكثر منه أدبي، بمعنى أن النصّ الأدبي قد يزدهر بالضغوط، وتتطوّر جمالياته بتحديّات الرقابة، أكثر مما يفعل دون قيام تلك الحوافز في الواقع الثقافي. للأدب سواقيه، وله منطقه، وتعليق إنجازاته على العراقيل الثقافيّة هو إعلان عجز فنّي وثقافي معًا. لعلّ المشكل في نظرتنا إلى الحركة الأدبيّة أننا نرهنها بأسماء ينمّطها الإعلام، فإنْ هي ماتت، زمنيًّا أو فنّيًّا، أعلنّا البكاء على أطلالها، وأنه قد «ذهب الذين يُعاش في أكنافهم»، دون التفاتٍ إلى التحوّلات، وإلى الأجيال اللاحقة، الذين يمثّلون حداثتهم المختلفة، وكأننا بذلك نَدْخُل من حداثةٍ في دائرة قدامة باسم الحداثة، تلك هي العقليّة الأزليّة ذاتها التي يواجهها كل جيلٍ مع من سبقه».

.

-4-

«دخلت الجامعة جاهلاً متواضعاً، وخرجت منها جاهلاً مغروراً»

_رجل الدولة عبدالعزيز التويجري_

.
في وقت سابق من العام الماضي تصدّرت وسائل الإعلام المحلية أخبار آخر الإحصاءات العالمية للجامعات والأكاديميات حول العالم، وما جعل ذلك مثار جدلٍ محلي هو حلول أبرز الجامعات المحلية في مراتب متأخرة (جداً ربما!). د.عبدالله ارتبط بالتدريس الجامعي منذ تخرجه من قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود كمعيد، وخلال تحصيله لدرجاته العلمية ظل متمسكاً بدوره التعليمي. ومؤخراً ابتعد عن التدريس في الجامعة، ترى ما الذي يفتقده في ذلك العالم ؟ وكيف يرى الانتقادات الأخيرة التي طالت الجهات الأكاديمية ؟ يجيب : «لم أبتعد كليًّا.. ولن. ما افتقدته - جزئيًّا، ومؤقتًا - هو التدريس فقط. وهو عالم له عشقه في نفسي، فليس أجمل من شعور الإنسان أنه يستزرع العقول والنفوس والبشر. أمّا الانتقادات في كل اتجاه فكثيرة، «وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها»؟! ليس في هذا دفاع عن السجايا الأكاديميّة؛ إذ لعل أهم ما يواجه أكاديميّاتنا في المملكة تلك القيود الإداريّة والماليّة التي تحدّ من الاستقلاليّة، ومن ثمّ تكبّل الفعاليّة الجامعيّة المنشودة. يضاف إلى ذلك أهميّة الرعاية المنصفة لحقوق أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، ماديًّا ومعنويًّا؛ فليس من المعقول أن يعامل من أنفق عمره في البحث والترحّل طلبًا للعلم، واشتغل بالتعليم الجامعي، وبالإشراف على مشاريع عِلميّة، وكأنه أحيانًا مستخدم في دائرة حكوميّة، دون التفاتٍ إلى خصوصيّة وضعه، ولا إلى شروطه الاجتماعيّة، وحاجاته العلميّة والعمليّة، من حيث هو إنسان باحث، رمى مغريات الدنيا وراء ظهره ناذرًا حياته لهذا المجال، الذي الاشتغال فيه ليس مكلفًا عُمريًّا وجهديًّا فحسب بل وماديًّا أيضًا.
من جهة أخرى، فإن جامعاتنا حَريّة، بعد استيعاب طلبتنا، أن لا تتحوّل إلى معتقلات، بعيدة عن الحُريّة في إقامة النشاطات الثقافيّة والترويحيّة المختلفة، ولا أن تغدو مجرد ثانويّات ضخمة، لا يعيش فيها الطالب أجواء الحياة الجامعيّة الخصبة، التي لا تكتفي بأن تعلّم أو تُلقّن، بل هي تربّي، وتُنضج شخصيّة الطالب والطالبة، وتُحفّز مواهبهما».


-5-

«الحضارة هي تزايد لا محدود لضروريات غير ضرورية»

_مارك توين_


يرى الشاعر الهندي والحائز على جائزة نوبل «طاغور» في إحدى فلسفاته عن إيقاع العصر الحديث، وما جرته على البشر أن الواقع صار أشبه بأن كلَّ يوم في هذا العصر صار يصرف وقتًا للحصول على عُدَّة الحياة أكثر مما يصرف للتمتع بها. وبين المسئوليات الرسمية والإبداعية والبحثية للدكتور الفيفي تتكاثف الضغوط حتى تبدو الـ 24 ساعة لا تفي. فكيف هي قراءاته خارج هذه المسئوليات ؟ وما الذي بقي فيه من مزارع فيفاء (تلك المدينة التي تمشّط جبالها الغيوم العابرة) ؟ ليجيب : «بقي الحُلْم، حُلم البقاء وفيًّا لفَيْفاء بحجم الوطن والإنسانيّة. كل ما ذكرتِه - رسميًّا وإبداعيًّا وبحثيًّا - لا ينفصل بعضه عن بعض. هي قصيدة واحدة، تتنوّع بحورها. من الغرور الشعريّ الزعم أن الإبداع لا حضور له خارج القصيدة. سأغنّي :

فيفــاءُ، يا كـأسَ النَّدامـَى إنْ هُــمُ
ظـمئُـوا لطلِّـكِ أكؤساً أو أكْـبُـدا!
.
مـدّي جناحـَـــكِ، حَلِّقي رَيَّانـَـةً
بطموحكِ الوَثــَّابِ، حُـجِّي الأَمْجَدا!
.
فعـقابـُكِ الشـاهـينُ يصطادُ السُّـهَـا
وعقـابـُكِ الإنسانُ يصطـادُ العِـدَى!
.
يـا غادةً حَلُمَتْ فغادرَ حُـلـْمـُهـــا
«نـَيْداً» تـَدانـَى أو»حَبـِيْلاً» مُصْعِـدا
.
يا مَـن يُرى فيهـا الـمُـحـَالُ حقـيقةً
وتدورُ في يـدهـا الهـُنَيْهَـةُ سَـرْمـَدا
.
أهـْـمـِي عليـكِ مَحبَّةً لا يمــَّحـي
حِـنـَّاؤها، وأصوغُ جِيْدَكِ عـَسْـجَدا
.
فيفـاء، كـلّ ثـرى العـروبـةِ مُوْحِـلٌ
هـلاّ وهـبتِ ثـراي نجـماً يُهـتدى؟!
.
إني سـألـتكِ.. تأكـلُ الفوضـى يـدي
وأضـمّ من تعـبي على تعـبي الـيـدا!
.
ففَيفاء فيّ هي حلم الطفولة، وتشوّف الشباب إلى أن تصبح جنّةً سياحيّة. ربما كانت قد فقدتْ بعض عذريّتها بفتح الطرق منذ قرابة ربع قرن، وما لحق ذلك من غزو الحديد والإسمنت وجهها النديّ، فليس أقلّ إذن من أن تكون عروسًا من عرائس المملكة. هذا يتطلّب بنية تحتيّة، لا تزال متواضعة جدًّا. وحتى الطُّرق كانت تستوجب التفريق بين الصحراويّ منها والجبليّ، سواء من حيث مواد بنائها أو أخذ العدّة لصيانتها، بحسب الظروف التضاريسيّة والتقلّبات المناخيّة. كما يتطلّب الأمر توفير المياه قبل كل شيء، ففَيْفاء لا تزال تعتمد في شربها - فضلاً عن مزارعها - على ماء السماء. تلك فَيْفاء التي شبّهها المستر فيلبي، لمّا زارها عام 1936م -1354هـ، بجبل هرمون، بدون ثلوجه طبعًا، وهرمون أحد أجمل الأماكن على الأرض، يقع في جنوب سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن فَيْفاء / هرمون تتطلّع في الواقع إلى التفاتة جادّة، على الأقل كي يصبح تشبيه فيلبي الذي اقترحه قبل سبعين سنة في كتابه «مرتفعات الجزيرة العربيّة» صحيحًا من الناحية البلاغيّة».
- اتجاه -
www.khayma.com/faify