وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

الأحد، شعبان ٢٤، ١٤٢٧

ملف// لبنان.. عدوان ولّى وذاكرة لا تشيخ

الخميس 14 - 08 - 1427هـ
الموافق 17 - 09 - 2006م


هناك ما لا يُنسى ولا يُغتفر

لبنان.. عدوان ولّى وذاكرة لا تشيخ


الرياض - منال العويبيل





درج اللبنانيون عند حديثهم عن فترة الحرب الأهلية، و العدوانات الإسرائيلية المتلاحقة على استخدام جملة سرت كالمَثَل المتداول بين العامة: تنذكر ، ما تنعاد!. وحقيقةً يأتي ما سبق كعنوان رئيسي لفلسفة الإنسان من تدوين التاريخ ذاته - مآسيه تحديداً - بحيث يتسنى للأجيال الاطلاع على التجارب دون الوقوع في مهالكها، و فعلياً تأتي الحروب كمجال هو الأثرى لتوثيق الوقائع، خاصة من كون فواجعها مما لا يُنسى في المقام الأول، و لطالما كان للإنسان خيارات خارج محيط التدوين التاريخي البحت للتوجه للآخرين بما يجابه به النسيان، أو التجاهل لما حصل.

وقد دأبت الحضارات (الآشورية ، البابلية ، الفراعنة... .) على توثيق إنجازاتها القتالية في منحوتات المعابد، والتماثيل، كذلك نجد العرب الأقدمين يتجهون بحماس للشعر، والخطابة، بل و ابتدعوا أغراضا خدمت هذه الفكرة كشعر الحماسة، وما إلى ذلك، لغرض قد يتشبث بالتخليد، برغم الاهتمام الآنيّ به في تلك الفترة.

و عطفاً على ذِكْرِ لبنان نجد أنه لا تخفى حالته المتفردة على كافة الأصعدة، فقد شكّل البلد الصغير الرقعة أبهة حضور على المستوى الحضاري و الثقافي، في عجالة هزمت حربه الأهلية، وباستماتة إنسانية لدمل الصدع الطائفي الذي حاق به، فلبنان «غير شِكِل» من كل ناحية.. دينياً كأكثر بلد عربي يضم تعدداً طائفيًا (ما يصل لـ 17 طائفة) مقارنة بمساحته، و عدد سكانه، وثقافياً، من حيث ضمه لحضارات متعددة بمزيج يجمع الثقافة العربية، و الفرانكفونية، والإنجليزية ، بل والأرمنية. إلى جانب اختلافات الأجيال التي عايشت ثقافة ما قبل/ أثناء/ ما بعد الحرب ، والمهجر ... الخ.

و من المثير في فترة العدوان الإسرائيلي الأخير أن تعود للواجهة العديد من القصائد، و الأغنيات القديمة التي كُلِّلتْ لأوجاع سابقة، حتى لتبدو رائعة نزار قباني (يا ستَّ الدنيا يا بيروت) دُوّنت لتؤديها ماجدة الرومي للعدوان الأخير تحديداً ، كذلك تأتي غالبية التقارير الإخبارية بخلفيات موسيقية لترانيم فيروز من قبيل: سنرجع يوماً إلى حيّنا، من قلبي سلام لبيروت، بيقولوا زغيّر بلدي، وغيرها من النزف الوطني الحيّ.. حتى لتُختم المأساة برائعة الراحل زكي ناصيف: راجع يتعمر لبنان/ راجع متحلي وأخضر مما كان! فلأي مدى يأتي التقارب مع وجع يظل يحضر، و يستحضر معه مثل هذه الذاكرة الفنية لتبدو كجوقة مناسبة لكل الأزمان المجروحة!..
وهو ما يُحرج الجهود المتواضعة من الحاضرين في الساحة حالياً بالباهت مما يؤدونه، و كأنه إخماد لشعور الواجب لا أكثر.

على الصعيد البصري، و في ظل الطفرة الإعلامية التي تتسابق بلهاث لتغطية ما حدث، و عواقبه بهمّة في سبيل نقل حيّ.. وصل لهوس التقاط ما حصل بمقاطع أفقية عبر الأقمار الاصطناعية إنما يدلل على أن تعددية المصدر، والكيفية، واللغة حتى، لا تستر عن المتلقي خافية، وكمثال آخر نجد حضور التصوير الفوتوغرافي كشاهد عيان عبر المراسلين الصحفيين بصور وثّقت الأشلاء، والدم، والنار.
أما عن القادم من التوثيق الفني فلا شك أن الحركة التشكيلية بدأت بأبسط صورها قبل وقف إطلاق النار حين أخذت مواقع النازحين في لبنان تكتظ برسومات الأطفال التي تحكي رَوْعَهم0



جدارية الجورنيكا - بيكاسو




ومن ناحية، يجيء التوثيق اللوني كنصب لا يُغفل ما يحكيه ذو دور فعّال عبر الزمن، فعلى سبيل المثال نجد ما وثّقه الرائد الإسباني بيكاسو في لوحته الأشهر (الجورنيكا) التي خلّدت مأساة السادس والعشرين من شهر إبريل عام 1937 حين اُرتكبت مجزرة في يوم السوق في مدينة الجورنيكا الصغيرة التي تقع في إقليم الباسك الإسباني، ففي ذلك اليوم الرهيب قامت طائرات هتلر الحربية بقصف المدينة الوادعة التي خلت من الرجال كونهم جميعا في جبهة الحرب آنذاك، ولم يبق فيها إلا النساء والأطفال والشيوخ وبعض المدافعين عن المدينة، و قد استمر هذا القصف الوحشي لمدة ثلاث ساعات و نصف الساعة سُوِّيتْ فيها المدينة بالأرض، و ذلك كله لغرض دنيء تمثَّل في اختبار الآثار التدميرية الناتجة عن نوع جديد من القنابل الحارقة شديدة الانفجار على السكان المدنيين.
فبعد شهر من التحضيرات أنهى الفنان لوحته، و وُضعت في الجناح الأسباني في معرض باريس الدولي لتكتسب التقدير العالمي الواسع، ولتُعرِّف الجميع بأقسى ليلة مرّت على أهالي مدينة وادعة تدعى جورنيكا، و بالتالي كانت تلك طريقته في التوثيق.

وكمثال أقرب زمناً وإقليمياً تناقلت نشرات الأخبار فوجاً من طلاب الفنون الجميلة بمدينة بغداد بدايات الاحتلال، و هم يوثّقون ما حصل رسماً على جدران كليّتهم، فهل ترانا مقبلين على جدارية لقانا، أم نصب شاهق من أسس البيوت التي هُدمت في جنوب لبنان، (مع أن الإعمار سيكون أعظم لوحة بصرية لانبعاث الحياة، و هجيعة الشهداء).

وعلى مستوى بصري آخر كان يمكن التعويل على المجال السينمائي والتلفزيوني اللبناني ليحكي الكثير، فالتحرر الكبير من الرقابة التقليدية يفتح للسينما اللبنانية آفاقاً للتعبير يفخر بها دون ابتذال، أو مزايدات سياسية، فلبنان بلد لا تنقصه العقول الخلاقة التي درست أحدث الخبرات عالمياً، كما أن الرؤى الإعلامية لا ينقصها أفق رحب، لكن عدم وجود قدرات إنتاجية وتقنية موازية تواكب باضطراد هذه المحاولات تصعّب القادم ، ومع أنّ الفيلم العربي عامة يعيش أزمة تستلزم نوعا من «الحَجْر الفني» بحدة، إلا أنه كان يمكن التعويل على التعدد الثقافي والأيدلوجي في لبنان ليولد فرجة لأطروحات توثّق الأمر بأساليب شتى، و رؤى واسعة الفُرجة..

وهو ما يفتح تساؤلاً عن إمكانية توسيع فكرة المؤازرة الثقافية لتشمل محاولات مباشرة لدعم المطابع المتضررة، و الجهات التشكيلية، بل و حتى مؤسسات الإنتاج الفنية لغرض أسمى يجعل ما آلمنا مع أوجاع اللبنانيين غير عابر، أو مسفَّه ، بل يحضر بما يليق بقامة بلد كلبنان0