وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

السبت، محرم ١٠، ١٤٢٩

حوار// الناقد وعضو مجلس الشورى عبدالله الفيفي (2-2)


الناقد وعضو مجلس الشورى عبدالله الفيفي (2-2) :

جدليّاتنا الثقافيّة تتأخّر لأننا نبدأ مقلّدين متأخّرين

أهم ما يواجه أكاديميّاتنا القيود الإداريّة والماليّة





حاورته : منال العويبـيل

إن التلقائية التي يتجاوب بها د.عبدالله الفيفي تجعل محاوره رهن الاستزادة من التساؤلات، وليظل هو قيد الأريحية في الرد بكل ما يبعثه من تعمّق عرَضاً أو قصدا، وعبر هذا المقام نستكمل معه الجزء المتبقي من هذا اللقاء.


-1-
«إن شكل القصيدة كامن في قوانينها ونظمها، لكن روحها كامنة في جمالها الذي يحرك روح الجمال فينا»

_ طاغور_


يقع العديد من المتابعين في لبس شائع يتمثل في نظرهم إلى أن قصيدة النثر تقدم نفسها كبديل للقصيدة الموزونة ووريثة غير شرعية لها. وفي منتصف العام 2006م عُقد في بيروت مؤتمر بمناسبة مرور نصف قرن على ولادة قصيدة النثر، والذي طالته بعض الانتقادات التي رأت أن العرب ما زالوا يتعاملون مع قصيدة النثر وكأنها طازجة النشأة، ومؤكدةً أنَّ العالم عَبَر المشهد الشعري مرحلة ما بعد قصيدة النثر! فلماذا علق المشهد العربي في زحام متأخر للتنظير أو التبرير؟ ليجيب د.عبدالله : «ماذا بعد قصيدة النثر؟ قصيدة اللاقصيدة، أم قصيدة اللا لغة ؟ في الجنس الشعريّ لا ساحل أبعد من نزول القصيدة عن صهوة الشِّعر إلى النثر، لتصبح القصيدة : قصيدة نثر، لا قصيدة شِعر.
وفي رأيي أنه من الاختزال اعتداد المكوّن الموسيقي في الشِّعر مكوّنًا صوتيًّا فقط. ولا ينفصل الصوتيّ عن الدلاليّ في أي لغة، وأظهر ما يكون التلاحم بينهما في لغة موسيقيّة بطبيعتها كاللغة العربيّة. أمّا التأخّر في جدليّاتنا الثقافيّة بصفة عامّة؛ فلأننا نبدأ مقلّدين متأخّرين، متلقّفين ما يتناهى إلى أسماعنا فقط، حسب إمكانية السمع لدينا على الاستقبال، فيما لا تنتج حناجرنا بعض أصواتها؛ لذا قد يتأخّر بلوغ الصوت، فنظلّ في دوّامته، وإن انحسرت موجاته من الأثير.
لكن أنْ يوجد الجَدَل خير من أن لا يوجد، فهو دلالة حيويّة فكريّة، إنْ كان جَدَلاً، لا محض رفض أو قبول. وجود الجَدَل الصحّي مؤشر على سلامة الجسم الثقافي، والضِّيْق به مؤشّر على تعطّل الجهاز المناعي أو جهاز التمثّل الغذائي في ذلك الجسم».
.
.
ومن جانبٍ موازِ نجد أن د.عبدالله الشاعر لم يخض في قصيدة النثر، فهل ذلك من باب أنه لم يجد فيها ما يغري بالتجربة. يقول : «دعينا نتفق أوّلاً على شِعريّة قصيدة النثر. قصيدة النثر- كما أراها - تجربة نثريّة لا شِعريّة. (سوزان برنار) نفسها في مسألة قصيدة النثر وقصيدة الشِّعْر، تخلص - في آخر سطرٍ من كتابها - إلى أن قصيدة النثر ليست بتجديدٍ للشكل الشِّعريّ، بمقدار ما هي ثورة احتجاجٍ ونضالٍ فكريّة للإنسان ضدّ مصيره.
كما تؤكّد أن قصيدة النثر تلبّي حاجات فكريّة لا شِعريّة. ولا ينتقص كونُ قصيدة النثر نثرًا من قيمتها الممكنة، إلاّ إنْ اعتقدنا أن الشِّعر بالضرورة وفي كل الأحوال أعظم من النثر. وإذن لا رهان على أنّي لم أخض، أو لن أخوض في هذا الشكل من الكتابة، ولكن الرهان هو هل سأسمّي ما أكتبه باسمه التقليدي : قصيدة نثر؟ هل سأفرح بأني من أتباع هذا الحزب لا ذاك؟ لقد بات مصطلح قصيدة النثر تسميّة تقليديّة - كما رأيتُ في كتابي «حداثة النصّ الشِّعري»، أو في بحثي حول «قصيدة النَّثْرِيْلَة»، الذي ألقيته في مهرجان عكاظ الصيف الماضي، أو بحثي بعنوان «مآزق الشِّعريّة بين قصيدة النثر والقِصّة القصيرة جدًّا»، الذي أسهمت به في ملتقى نادي القصيم الأدبي، في شوّال الماضي. بات مصطلح (قصيدة النثر) مستودعًا بشتات من النصوص، ممّا يُسمّى (القصّة القصيرة جدًّا)، أو بعض شِعر التفعيلة، أو الخواطر العابرة، أو، أو... لأنها إذا أُسقطت المعايير الفنّيّة التي ظلّت تميّز جنس الشِّعر عن غيره - منذ آدم إلى أيّامنا - لن يستطيع أحدٌ بعدئذٍ أن يقول لكِ : ما الشِّعريّة ؟ أين تكمن ؟ أين العلامات الحدوديّة بين الشِّعري والنثري ؟ وعندئذٍ ستخضع الأمور لاستمزاج شخصيّ، أو ذوقٍ عامّ غير مدرّب، أو بعيدٍ عن الوعي العلميّ بفوارق الأجناس الأدبيّة. لقد قلتُ قبل هذا : إن قصيدة النثر تقتل نفسها حين تتزلّف الشِّعر، أو ترضى أن تمسي في عالم الأدب مُلْصَقًا شِعريًّا، لا أكثر ولا أقلّ».


-2-

«إذا لم تحاول أن تفعل شيئاً أبعد مما قد أتقنته، فلن تتقدم أبدا»

_رونالد اسبورت_


في وقتٍ سابق من العام 2007م، طرح د.عبد الله الفيفي دراسة تناول فيها شكلاً جديداً تبنته نصوص شعرية كلون جديد، يقع بَيْن قصيدة النثر والتفعيلة تحت مسمى «قصيدة النثريلة»، والمنتظر نشرها في إصدارٍ قادمٍ له، فهل ستفتح الباب لجدلية البدايات والريادات محلياً وعربياً ؟ وما أبرز نقاط الجدل التي قد تثيرها بنظره ؟ يجيب : «أنا سعيد بتلك الأصداء، على الرغم من أن الدراسة لم تُنشر بعد. إلاّ أنني في ذلك المقتحم البحثي لست من المنشغلين بالبدايات والريادات، بمقدار انشغالي برصد الظواهر. ذلك لأن الخوض في البدايات والريادات تضييع للوقت والجهد في جدليّات بلا طائل، ولا يمكن في مجال الفنون والآداب الجزم فيها بنتائج علميّة، فالأشكال الفنيّة تمرّ بتراكمات من التجارب، ومخاضات ومؤثّرات واسعة ومتشعّبة. فهل قصيدة النثر نفسها يمكن القطع بجدّتها على الأدب العربي ؟
ما أطلقتُ عليه أنا (قصيدة النَّثْرِيْلَة) - في اجتهاد اصطلاحيّ - هي عَتَبَة شِعريّة نثريّة، أجمل ما فيها أنها تمزج نوعين أريد لهما أن تقوم بينهما الفواصل والجُدُر، أو أن تُسمّى الأشكال البنائيّة فيهما بغير أسمائها. إنها قصيدة الشِّعر نثر، أو (النثر- تفعيلة). وهي شكل تلفت إليه نصوصٌ تصنّف عادةً في قصيدة النثر. غير أن إشكاليّة بعض كتّابها أنهم لا يريدون أن يعترفوا لأنفسهم بهذا الإنجاز، بل بعضهم يتبرّأ من ذلك، وكأنه يتبرّأ من نفسه؛ لأنه لا يريد إلاّ أن ينضوي ضمن قطيعٍ معيّن، لا يطمح إلى التفرّد ولا إلى استقلال الصوت، أو الإنجاز النوعيّ. وهذه من مفارقات حداثتنا المقلِّدة».


.
بالتالي، من الممكن اعتبار أسلوب «قصيدة النثريلة» نكوصاً غير صريح للنهج التقليدي للشعر (عبر حضور التقفية) ، وقد يُرى في الوقت ذاته ضرباً جديداً من التجريب.. بين الأولى والتالية كيف يرى ذلك د.عبدالله ؟ يقول : «في قصيدة النَّثْرِيْلَة تحضر التفعيلة قبل التقفية. وليس هنالك نهجٌ تقليديّ في الشِّعر الذي يستحق هذا الاسم، هناك شِعر أو لا شِعر. فإن كان المقصود بالتقليديّة بناء القصيدة العربيّة الخارجي، فليس هو مُحَدِّد الحداثة والتقليد، فكم من قصيدة موزونة مقفّاة أكثر حداثة (جوهريّة) من قصيدة تفعيلةٍ أو نثر.
نعم، هناك تقليد في البناء الظاهري للقصيدة العربيّة، بيد أن هناك في المقابل تقليدًا داخليًّا وخارجيًّا للقصيدة الغربيّة في الشِّعر الحديث! فهما تقليدان، بأيّهما اقتدينا مذهبيًّا ضللنا سبيل الإبداع، ولقلّما يخرج عنهما الشاعر العربيّ الحديث، إلاّ أنه يَعُدّ تقليد الآخر هو التجديد، وتقليد التراث هو وحده التقليد! أوليست قصيدة النثر نفسها تقليديّة ؟ أزعم أنها تقليديّة لتراثٍ عربيّ وغربيّ في آن، ولا جديد فيها يستحقّ الهالة المحاطة بها، إلا مفارقة الاسم (قصيدة / نثر)، فكيف نعدّها خطوة إلى الأمام لا نكوصًا، وأنتِ قد تجدين نماذج منها في ضروب النثر الفنّي العربيّ المختلفة، من «فنّ التوقيعات»، إلى «إشراقات الصوفيّة»، وحتى في بعض «سجع الكُهّان»؟!
أمّا قصيدة النَّثْرِيْلَة ففيها اختلاف نوعي، حسب تقديري، وهي على ضربين، ضرب تجريبي، ينتجه الكاتب عن وعيٍ بالفوارق بين التفعيلي والنثري، وضرب تلقائي، يتجسّد فيه الصدق النفسي، الخارج عن التقليديّات المشار إليها، أو بالأصحّ الخارج عن التقيّد بأيّ منها حذو القُذّة بالقُذّة؛ إذ يبدو أنه لا مفرّ من تقليدٍ ما في الإبداع عمومًا ! وهذا ما لفت نظري وحسّي في هذا الشكل غير المسمّى من قبل، أعني : قصيدة النَّثْرِيْلَة. وأراه هنا والآن ثمرة المخاض العربي لأكثر من نصف قرنٍ بين القصيدة العربيّة وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وإنْ وُجد كالعادة من يودّ وأد هذا المولود، أو الحيلولة دون منحه شهادة ميلاد، حتى من قِبَل كتّابه أنفسهم. إن قصيدة النَّثْرِيْلَة ليست نبتًا شيطانيًّا، بل هي القصيدة العربيّة تستعيد بكارتها، بعيدًا عن ضوضاء التمذهب».


-3-

«إن الدعوة لانقلاب في فهم الحداثة الشعرية العربية تقتضي الدعوة لانقلاب مماثل في نقدها»

_أدونيس_

يجد المتابع لمجال الدراسات والبحوث الخاصة بالشعر اتجاه العديد من الأسماء الأكاديمية لتناول التجارب المتقدمة من العصور العربية (الجاهلية، والإسلامية الأولى) وبرغم حرية البحث العلمي واختيارات الدارس نتساءل عن تغييب المراحل الحديثة بوضوح، هل تراها ضغوطات أيديولوجية، أو أن التجارب الحديثة عبر المشهد العربي لم تجد لها فسحة في الأطروحات المحلية بما يفي ؟ يجيب د.عبدالله : «ليس تقليلاً من شأن التراث وأهميّة دراسته أن نعترف بتقصيرٍ ما في دراسة الأدب الحديث. دراسة التراث ليست ترفًا، بل هو أمر أشدّ إلحاحًا، وأكثر حضورًا، في مختلف الثقافات، لا في الثقافة العربيّة وحدها؛ بما هو أساس التكوين، وامتداد الجذور. قد لا يكون الشأن مع المراحل الحديثة «تغييبًا»، فالمؤتمرات، والندوات، والبحوث عن الأدب الحديث أكثر اليوم منها عن الأدب القديم. أمّا الأبعاد الأيديولوجيّة، فحاضرة بلا شكّ في كل مكان، وإلاّ لما غابت التجربة الحديثة من المناهج التعليميّة العامّة، وقلّت في الدراسات الجامعيّة والعليا. مع عدم إغفال اشتراطات علميّة موضوعيّة هنا، تتعلّق بالبُعد الزمني والحضور الكمّي والنوعيّ، لا بدّ من توافرها لوصول التجربة إلى مستوى الصلاحيّة لتناولٍ أكاديمي» .

.

ومن ناحية مقاربة، نسأل د.عبدالله عن سطوة الأيديولوجيا التي خنقت الشعر في ذروة حداثة النص الشعري السعودي أين تقف من شعر اليوم ؟ وهل تحولت نوعية العلاقة من الصدام للحياد ؟ فيقول : «الأيديولوجيا إرث مشترك، تراثي وحداثي. ولا يمكن أن تخنق الشِّعر الحقيقي - وغير المؤدلج بدوره - والتاريخ شاهد على هذا. كما أن الحداثة لا ذروة لها، إنْ كانت حداثة، لا موجة عابرة. ربما كانت الأجواء الآن أفضل منها قبل عشرين سنة، لكن هذا مؤثّر ثقافي أكثر منه أدبي، بمعنى أن النصّ الأدبي قد يزدهر بالضغوط، وتتطوّر جمالياته بتحديّات الرقابة، أكثر مما يفعل دون قيام تلك الحوافز في الواقع الثقافي. للأدب سواقيه، وله منطقه، وتعليق إنجازاته على العراقيل الثقافيّة هو إعلان عجز فنّي وثقافي معًا. لعلّ المشكل في نظرتنا إلى الحركة الأدبيّة أننا نرهنها بأسماء ينمّطها الإعلام، فإنْ هي ماتت، زمنيًّا أو فنّيًّا، أعلنّا البكاء على أطلالها، وأنه قد «ذهب الذين يُعاش في أكنافهم»، دون التفاتٍ إلى التحوّلات، وإلى الأجيال اللاحقة، الذين يمثّلون حداثتهم المختلفة، وكأننا بذلك نَدْخُل من حداثةٍ في دائرة قدامة باسم الحداثة، تلك هي العقليّة الأزليّة ذاتها التي يواجهها كل جيلٍ مع من سبقه».

.

-4-

«دخلت الجامعة جاهلاً متواضعاً، وخرجت منها جاهلاً مغروراً»

_رجل الدولة عبدالعزيز التويجري_

.
في وقت سابق من العام الماضي تصدّرت وسائل الإعلام المحلية أخبار آخر الإحصاءات العالمية للجامعات والأكاديميات حول العالم، وما جعل ذلك مثار جدلٍ محلي هو حلول أبرز الجامعات المحلية في مراتب متأخرة (جداً ربما!). د.عبدالله ارتبط بالتدريس الجامعي منذ تخرجه من قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود كمعيد، وخلال تحصيله لدرجاته العلمية ظل متمسكاً بدوره التعليمي. ومؤخراً ابتعد عن التدريس في الجامعة، ترى ما الذي يفتقده في ذلك العالم ؟ وكيف يرى الانتقادات الأخيرة التي طالت الجهات الأكاديمية ؟ يجيب : «لم أبتعد كليًّا.. ولن. ما افتقدته - جزئيًّا، ومؤقتًا - هو التدريس فقط. وهو عالم له عشقه في نفسي، فليس أجمل من شعور الإنسان أنه يستزرع العقول والنفوس والبشر. أمّا الانتقادات في كل اتجاه فكثيرة، «وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها»؟! ليس في هذا دفاع عن السجايا الأكاديميّة؛ إذ لعل أهم ما يواجه أكاديميّاتنا في المملكة تلك القيود الإداريّة والماليّة التي تحدّ من الاستقلاليّة، ومن ثمّ تكبّل الفعاليّة الجامعيّة المنشودة. يضاف إلى ذلك أهميّة الرعاية المنصفة لحقوق أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، ماديًّا ومعنويًّا؛ فليس من المعقول أن يعامل من أنفق عمره في البحث والترحّل طلبًا للعلم، واشتغل بالتعليم الجامعي، وبالإشراف على مشاريع عِلميّة، وكأنه أحيانًا مستخدم في دائرة حكوميّة، دون التفاتٍ إلى خصوصيّة وضعه، ولا إلى شروطه الاجتماعيّة، وحاجاته العلميّة والعمليّة، من حيث هو إنسان باحث، رمى مغريات الدنيا وراء ظهره ناذرًا حياته لهذا المجال، الذي الاشتغال فيه ليس مكلفًا عُمريًّا وجهديًّا فحسب بل وماديًّا أيضًا.
من جهة أخرى، فإن جامعاتنا حَريّة، بعد استيعاب طلبتنا، أن لا تتحوّل إلى معتقلات، بعيدة عن الحُريّة في إقامة النشاطات الثقافيّة والترويحيّة المختلفة، ولا أن تغدو مجرد ثانويّات ضخمة، لا يعيش فيها الطالب أجواء الحياة الجامعيّة الخصبة، التي لا تكتفي بأن تعلّم أو تُلقّن، بل هي تربّي، وتُنضج شخصيّة الطالب والطالبة، وتُحفّز مواهبهما».


-5-

«الحضارة هي تزايد لا محدود لضروريات غير ضرورية»

_مارك توين_


يرى الشاعر الهندي والحائز على جائزة نوبل «طاغور» في إحدى فلسفاته عن إيقاع العصر الحديث، وما جرته على البشر أن الواقع صار أشبه بأن كلَّ يوم في هذا العصر صار يصرف وقتًا للحصول على عُدَّة الحياة أكثر مما يصرف للتمتع بها. وبين المسئوليات الرسمية والإبداعية والبحثية للدكتور الفيفي تتكاثف الضغوط حتى تبدو الـ 24 ساعة لا تفي. فكيف هي قراءاته خارج هذه المسئوليات ؟ وما الذي بقي فيه من مزارع فيفاء (تلك المدينة التي تمشّط جبالها الغيوم العابرة) ؟ ليجيب : «بقي الحُلْم، حُلم البقاء وفيًّا لفَيْفاء بحجم الوطن والإنسانيّة. كل ما ذكرتِه - رسميًّا وإبداعيًّا وبحثيًّا - لا ينفصل بعضه عن بعض. هي قصيدة واحدة، تتنوّع بحورها. من الغرور الشعريّ الزعم أن الإبداع لا حضور له خارج القصيدة. سأغنّي :

فيفــاءُ، يا كـأسَ النَّدامـَى إنْ هُــمُ
ظـمئُـوا لطلِّـكِ أكؤساً أو أكْـبُـدا!
.
مـدّي جناحـَـــكِ، حَلِّقي رَيَّانـَـةً
بطموحكِ الوَثــَّابِ، حُـجِّي الأَمْجَدا!
.
فعـقابـُكِ الشـاهـينُ يصطادُ السُّـهَـا
وعقـابـُكِ الإنسانُ يصطـادُ العِـدَى!
.
يـا غادةً حَلُمَتْ فغادرَ حُـلـْمـُهـــا
«نـَيْداً» تـَدانـَى أو»حَبـِيْلاً» مُصْعِـدا
.
يا مَـن يُرى فيهـا الـمُـحـَالُ حقـيقةً
وتدورُ في يـدهـا الهـُنَيْهَـةُ سَـرْمـَدا
.
أهـْـمـِي عليـكِ مَحبَّةً لا يمــَّحـي
حِـنـَّاؤها، وأصوغُ جِيْدَكِ عـَسْـجَدا
.
فيفـاء، كـلّ ثـرى العـروبـةِ مُوْحِـلٌ
هـلاّ وهـبتِ ثـراي نجـماً يُهـتدى؟!
.
إني سـألـتكِ.. تأكـلُ الفوضـى يـدي
وأضـمّ من تعـبي على تعـبي الـيـدا!
.
ففَيفاء فيّ هي حلم الطفولة، وتشوّف الشباب إلى أن تصبح جنّةً سياحيّة. ربما كانت قد فقدتْ بعض عذريّتها بفتح الطرق منذ قرابة ربع قرن، وما لحق ذلك من غزو الحديد والإسمنت وجهها النديّ، فليس أقلّ إذن من أن تكون عروسًا من عرائس المملكة. هذا يتطلّب بنية تحتيّة، لا تزال متواضعة جدًّا. وحتى الطُّرق كانت تستوجب التفريق بين الصحراويّ منها والجبليّ، سواء من حيث مواد بنائها أو أخذ العدّة لصيانتها، بحسب الظروف التضاريسيّة والتقلّبات المناخيّة. كما يتطلّب الأمر توفير المياه قبل كل شيء، ففَيْفاء لا تزال تعتمد في شربها - فضلاً عن مزارعها - على ماء السماء. تلك فَيْفاء التي شبّهها المستر فيلبي، لمّا زارها عام 1936م -1354هـ، بجبل هرمون، بدون ثلوجه طبعًا، وهرمون أحد أجمل الأماكن على الأرض، يقع في جنوب سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن فَيْفاء / هرمون تتطلّع في الواقع إلى التفاتة جادّة، على الأقل كي يصبح تشبيه فيلبي الذي اقترحه قبل سبعين سنة في كتابه «مرتفعات الجزيرة العربيّة» صحيحًا من الناحية البلاغيّة».
- اتجاه -
www.khayma.com/faify


الأربعاء، ذو الحجة ٣٠، ١٤٢٨

قراءة// «الدراسة في الخارج».. دليلك الشخصي نحو الابتعاث


كتاب يقدم شرحاً عن حياة الطلاب الملتحقين بالجامعات الأجنبية:
«الدراسة في الخارج».. دليلك الشخصي نحو الابتعاث
.
-غلاف الكتاب-
.

قراءة: منال العويبيل

غالباً ما نجد أن المرجع الأساسي للطلبة والطالبات الراغبين في الابتعاث الخارجي _ بعيداً عن الخبرات الشخصية ووسائل الإعلام _ هو الوسيلة الأكثر رواجاً بين مختلف فئات المجتمع والمتمثلة بوكالة: «يقولون»!
وعبر كتاب «الدراسة في الخارج» يقدم عضو هيئة التدريس بكلية التربية بجامعة الملك سعود د. عبد العزيز بن عبدالله بن طالب مرجعاً شاملاً يضم الكثير من المعلومات القيمة عن الابتعاث، وما قد يحتاجه المتقدم لخوض هذه التجربة الفارقة، عبر دمج الخبرات الشخصية للمؤلف، الذي سبق له الابتعاث لنيل شهادة الماجستير والدكتوراة من جامعة تكساس بأوستن، إضافة إلى حشد وافر من المعلومات المختلفة، والموثقة رسمياً عن العديد من الجامعات والمعاهد حول العالم.
.
إن المطّلع على ثنايا الكتاب يجده يقدم الهدف الرئيس، الذي قصد إليه مؤلفه بكل وضوح وانسيابية، فمنذ صفحاته الأولى سيجد القارئ نفسه إزاء مجموعة من الإرشادات، التي لم ينحصر توجهها فقط للمبتعث المحلي، بل ما يمكن أن يستفيد منها جميع الطلبة والطالبات العرب ممن يرغبون إكمال مسيرتهم التعليمية خارج حدود الوطن العربي، دون اقتصار ذلك على المعلومات الأكاديمية البحتة، بل التوسع حول النواحي التنظيمية والثقافية والاجتماعية.. وغيرها.
.
وعلى مدى 14 فصلاً ميسّرة العرض، ينتقل المؤلف بقارئه من الإطار النظري عن فكرة الدراسة في الخارج بملابساتها التاريخية، وما قدمته تالياً من نتائج تنموية لافتة. حتى يصل لعرض مثل هذه الآثار الإيجابية في دول آسيوية كالصين واليابان وكوريا وماليزيا، والتي ساهمت دراسة مبتعثيها في تحقيق تطورات لافتة في التقدم الاقتصادي ودفع حراك التنمية في تلك البلدان. ومن ثم يتعمق الكاتب مع الإجراءات اللازمة والأنظمة الجامعية، بدءاً من اختيار مقر الدراسة، ووصولاً لعملية الاستعداد للسفر، والشئون الحياتية في الوجهة التي اختارها الدارس.
.
إن من أبرز المحطات المميزة، التي يقف عليها المؤلف، هي الأفكار السلبية، التي تخلط حابل الابتعاث للدراسة بنابل الانحراف والافتتان بالغرب، إن لم يصل مؤشر المخاوف للخشية من رغبة المبتعث في الاستقرار هناك بعد خوض التجربة، حيث يعرض المؤلف أبرز المخاوف السلبية التي تدور في بال العديدين في المجتمع مفنداً الرؤى المغلوطة منها بأسلوب منطقي.
.
ولكل من يظن أن طائل برامج المنح وبعثات الدراسة الخارجية لا تتعدى المكاسب الشخصية للمبتعثين، ومحيطهم الصغير، يعرض المؤلف بالإحصائيات ونتائج الدراسات أبرز الآثار الإيجابية على دول المبتعثين، بل والعائد الاقتصادي والثقافي الذي يطال الدول التي تستقبل الطلبة الأجانب.كما يضيف المؤلف قراءات تحليلية لأهم الإحصائيات، التي تعرضها الأرقام المختلفة، على سبيل المثال حين نعلم أن عدد الأجانب في الولايات المتحدة وحدها عام 2004 وصل إلى 509,572 طالبا وطالبة. وإذا كانت إحدى الأفكار الشائعة اجتماعياً تعزو مثل هذه الأرقام الضخمة للانبهار المحموم بالولايات المتحدة الذي يفرزه الإعلام، يوضح المؤلف على محك واقعي المميزات الفعلية للجامعات والمؤسسات التعليمية والمرونة الجاذبة للنظام التعليمي، والاهتمام بالبحث العلمي، والتنوع الكبير للتخصصات. وعلى عكس النظرة النمطية حول العنصرية الأمريكية يجد الدارس هناك أن التنوع العرقي والديني والثقافي للولايات المتحدة يبدد الشعور بالغربة، ويدعم حافز الإبداع.
.
وبينما تخصص أهم الشركات والمؤسسات العالمية الميزانيات الكبيرة لفرق التخطيط، ودراسة الجدوى، يُهمل العديد التمثل بهذا النظام على الصعيد الشخصي. فعطفاً على موضوع الدراسة في الخارج لا ينكر عدد مماثل مصادفتهم لصنفين من الراغبين بالدراسة خارج بلدانهم وهم: ممن ينحون لاستسهال العملية بإفراط، أو العكس من ذلك حيث الاستصعاب الذي يجر معه تعقيد الكثير من الأمور التي قد تقف حائلاً في وجه الراغب نهاية المطاف. وبالتالي يأتي خيار التخطيط الموضوعي لهذه التجربة كخيار سلامةٍ أولى يضع في حساباته كافة الجوانب، وبواقعية لا تُهمل أية صغائر، كونها على حد تعبير المؤلف «رحلة عمر» وتجربة فريدة على جميع المستويات التي لا تنحصر في نيل درجة علمية أو شهادة دراسية.
.
وعلى الصعيد الإخراجي نجد أن المؤلف قدم كتابه بمستوى عال من الاحترافية التي تخدم أهدافه، وبتميز واضح على مستوى الصور والألوان والفواصل والاقتباسات والاستشهادات البليغة والصور البيانية وغير ذلك. فعلى سبيل المثال يوجد مع كل استهلال فصل الترتيب التنازلي لأفضل 15 جامعة ومعهد حول العالم، والذي تتصدره حالياً جامعة هارفارد العريقة، وصولاً لجامعة تكساس بأوستن، والتي تحتل المرتبة 15 بناءً على قائمة أفضل 200 جامعة على مستوى العالم. يليه اقتباس يتماهى مع فكرة طرح الفصل لشخصيات عالمية بارزة على الصعيد العلمي والفكري والثقافي تمهد رؤاهم ومقولاتهم للقادم من المعلومات بكل جمالية وترقب.يشار إلى أن الطبعة الثانية من الكتاب قد صدرت في فترة قياسية لم تتجاوز التسعة أشهر، كما أفرد له المؤلف صفحة خاصة على شبكة الإنترنت: http://www.taleb.net/.
.
إنه كتاب لن يفيد الراغب في الابتعاث ومن يحيطون به من العائلة المهتمة وما إلى ذلك بشكل مخصوص، بل يضيء الصورة للجهات الحكومية أو الخاصة في الوطن العربي المختصة بالإشراف على برامج المنح الدراسية والتدريبية للطلاب عامة، أو منسوبيها على وجه أخص. كما قد يمنح الكتاب فرصة لأولئك المترددين، أو المرتابين من هذه الخطوة، للاستزادة حول تجربة الدراسة في الخارج، ليكونوا -ولو بأضعف الإيمان- على بينة من واقع ذلك. وعلى يقين من الاستفادة الكبيرة التي سينالها المهتم بهذا الموضوع لا ننسى أن ننوه القارئ بعد تصفح الكتاب ألا يتسرع بحزم حقائبه قبل استيفاء الإجراءات اللازمة.

الثلاثاء، ذو الحجة ٢٩، ١٤٢٨

حوار// الدكتور عبدالله الفيفي (1-2)


الناقد وعضو مجلس الشورى الدكتور عبدالله الفيفي (1-2) :
إعلامنا لا يعكس القضايا المطروحة في مجلس الشورى بدقّة

ليست لدينا تجارب سينمائيّة تُذكر ليلتفّ حولها جهد نقديّ



حاورته : منال العويبـيل
حينما يتبادر إلى ذهن السائل مشاكسة د.عبدالله الفيفي بالأسئلة لن يخشى من ارتداد تقليدي الإجابات التي تبدأ بمفرداتٍ من قبيل : في الحقيقة، والواقع... . وسواء حاورت الناقد، أو الشاعر، أو عضو مجلس الشورى ستجد ذات الشخصية التي لا تحاذي الأسئلة دون أن تقطعها بكل صراحة ممكنة.
.
-1-
«الحقيقة بلاد لا طرق فيها»
_الفيلسوف الهندي كريشنامورتي_
.
«سيسمحون.. لن يسمحوا».. هي أكثر عبارات العامة رواجاً حيال أي قضية شائكة تُطرح في مجلس الشورى، منهم من يتداولها على غرار الرهان، أو الجدل، وقد يظهر بعض المعنيين بصورة كلاسيكية لحامل زهرة يقطف بتلاتها _على سبيل الأمل_ وعلى ذات الوزن : «سيسمحون.. لن يسمحوا».
في السنوات القليلة الماضية كانت قضية السماح بممارسة الرياضة البدنية للفتيات في المدارس، قيادة المرأة للسيارة، وصولاً لدُور السينما والمسارح من المواضيع الأكثر جدلاً في أوساط العامة، والتي نالت نصيبها أيضاً من التسليط الإعلامي خارج المملكة، بعد فترة من الهدوء النسبي للقضايا المطروحة على منبر حوار مجلس الشورى.. ما رؤية د.عبدالله الشخصية عضو المجلس منذ عام 2005م لهذه النقلة؟ وما نظرته لهذه القضايا الجدلية؟ يجيب : «مثل هذا السؤال يوجّه في رأيي إلى الإعلام، فهو الذي يهدأ أو يثور. وقد يثور ويُثير قضايا مرّت عَرَضًا، وقد يهدأ في صدد قضايا أكثر أهميّة للمواطن وأقوى طرحًا من خلال المجلس. وأعتقد أنه بسلوكه هذا لا يعكس القضايا الكثيرة التي تُطرح في المجلس بدقّة، ولا ينقل ما يتخذه المجلس من قرارات في شتى المجالات أو يسنّه من أنظمة تستغرق من الجهد والوقت والمناقشة الكثير. هذا فضلاً عن أن يكون للإعلام دوره بصفته وسيطًا أمينًا ومحايدًا بين المجلس والرأي العام. إنْ هي إلا كلمات تمرّ هنا أو هناك، ليركض وراءها إعلام «الخبطة العشوائيّة»؛ لأنها صادفت هوى، أو وافقت أسئلة جدليّة لدى شريحة ما، أو نكأت موقفًا من المواقف. ومهما يكن من أمر، فأنا مع مناقشة جميع القضايا التي تهم الوطن والمواطن، من قضايا المعيشة، والتعليم، والعمل، والمرأة، والفكر والثقافة، بشفافيّة تامّة، وفق صلاحيات المجلس، والمسؤوليّات الموكلة إليه، وفي إطار أولويّات لما يمسّ حياة الإنسان، وضمن رؤية شاملة، لا جزئيّة، ولا منحازة لتيّار معيّن أو مصلحة خاصّة، تعلو فوق ما تقتضيه المصلحة العامّة. أنا من المنادين بترسيخ هذا النهج واستمراره وزيادته وتطويره، وأن يؤدّي الإعلام رسالته، في دقّة وموضوعيّة واعتدال، لنقل الصورة الحقيقيّة من المجلس وإليه».
.
.
.
-2-
«إن كل الأساطير والانعكاسات الموضوعية لمخيلات الشعوب منذ ألوف السنين تنتظر البعث الضوئي، أي السينما»
_المخرج الفرنسـي آبيل غانس_
.
يمكن للمتأمل في الولادات السينمائية المحلية لمس الارتباك الحاصل حول أسس هذه الصناعة من عدة نواح، خاصةً في البون الشاسع بين التنظير الفاخر الذي يقرأه عبر الإعلام والواقع الركيك لسواد التجارب. ويذكر د.كاظم مؤنس (أستاذ فن الإخراج السينمائي) أن للبسِ الحاصل بين مفهوم النقد السينمائي - البصري والأدبي دورا مؤثرا في هذه العملية، حيث يخلط الكثيرون بين المفهومين، فتنتج رؤى ملتبسة تؤصِّل الأخطاء بالتقادم. ونجد أنَّ ظهور التجارب السينمائية محلياً أثار ذات الإشكالية التي يطرحها الأدباء والتشكيليون : غياب النقد. مع استثناء بعض الاجتهادات الإعلامية التي قد تترجم فكرة د.مؤنس. من وجهة نظر د.عبدالله الفيفي كأستاذ للنقد الحديث ما هو النهج الصحيح للتعامل مع فن يفتقد احترافية صانعيه فكيف بنقاده؟ يجيب : «دعينا نعترف أنه ليست لدينا محلّيًّا تجارب سينمائيّة تُذكر لكي يلتفّ حولها جهد نقديّ. بخلاف الحركة التشكيليّة. إن السينما والمسرح هما وسيلتا تعبير، أُولاهما معاصرة والأخرى قديمة قِدمَ الإغريق. يمكن أن تستخدما فيما يفيد وفيما يضرّ، تمامًا كالتلفاز، والمذياع، والهاتف المحمول، والإنترنت، والقناة الفضائية،،، إلخ. هي تقنيات محايدة في حدّ ذاتها، وما التردّد حيالها إلا لأنها ارتبطت بذاكرة أخلاقيّة ما، إلاّ أنه من عدم الحكمة ولا العدل التوقف عند لفظ (سينما) والغفلة عن المحتوى، الذي قد يكون صالحًا أو طالحًا. إنما مَثَل من مَنَع السينما أو المسرح هنا كمَثَل من مَنَع العطاشى من شرب ماء حتى ماتوا من العطش؛ بحُجّة أن قومًا ما شَرِقوا به فماتوا، على حدّ تشبيه (ابن رُشد)- في «فصل المقال»- حال من حرّموا الفلسفة. ولربما كان فيلم سينمائي، أو عرض مسرحيّ، أبلغ تأثيرًا من ألف كتاب. ونحن اليوم في عصر التقنية، والصورة. حتى الثقافة الورقيّة باتت مهدّدة بالتراجع لحساب الثقافة الإلكترونيّة والتلفازيّة. وفي هذا المضمار المعاصر، سيكون من المكابرة، والدعوة إلى التخلّف، الزعم بأننا في غنى عن الأخذ بهذه الوسائل الحديثة، تعليمًا، وتوعية، وتثقيفًا، ومدافعة في معترك الحياة، حيث يتلقّى الناس منّا بشكل أقوى وأسرع بما لا يقارن بتلقيهم مقالة أو قصيدة أو خطبة أو كتابًا ونحوها من وسائل التواصل الثقافية العتيقة. لقد غابت الفنون الموضوعيّة التشخيصيّة - من ملحمة ودراما - من تراثنا الأدبي العربي لأسباب ثقافيّة. وثقافة البيئة العربية ظلّت ثقافة قَبَليَّة، بكلّ قِيَمها النمطيّة، وعُزلتها الاجتماعيّة، وواحديّتها الرؤيويّة؛ حيث لا مجتمع مدنيًّا، ولا تعدّدية، ولا قابليّة حوار. فكانت تلك بيئة غير صالحة -أساسًا- لنشوء فنون كتلك. على أن تلك المعوّقات الثقافيّة تستحيل مع الزمن إلى معوّقات ذهنيّة، تسيطر على لغة الإنسان وخياله، وإن كان قد هجر بيئة إلى بيئة، وانتقل من مجتمع إلى مجتمع، فغادر قِيَمًا ثقافيّة إلى أخرى. ذلك هو سجلّنا الثقافيّ. فإذا غيّرنا ما بأنفسنا، كما يجب، فتوطّنت تلك المفاهيم - الحديثة علينا القديمة لدى غيرنا - فنشأت حركة فنّيّة سينمائيّة ومسرحيّة حقيقيّة في المملكة، تضاهي النقلة الحضاريّة التي تشهدها، سيأتي عندها النقد، ويسوغ السؤال عن : مدى مواكبته؟».
.
.
.
-3-
«لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين»
_حديث شريف_
.
كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : «إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب, فإن الشعر ديوان العرب». كما كان إذا سُئل عن شيء من القرآن أنشد شعرا. وفي هذا الأثر تتبدى العلاقة الأصيلة بين العرب والشعر منذ عصر الإسلام الأول، كإرثٍ ثقافي تاريخي للمنطقة بشكل عام. وعلى صعيد مراحل متقدمة نجد أن بعض الرؤى النقدية باتت تحول القارئ إلى منتِج للنص، وعنصر فعال يشارك في عملية صياغته، ولو بطريقة ثانوية، إلا أن سواد قراء الشعر العربي لا يحتاجون في الغالب لوساطة النقاد لتنصيبهم لهذا الدور، بما يشبه وصاية على صياغة الشعر، والتصدي لتيارات التجريب. نسأل د.عبدالله لماذا تبزغ هذه الحساسية في التعامل مع التجريب في النص الشعري؟ ليجيب : «لأن الشِّعر حامل اللغة الأوّل، في جميع الأُمم. وهو الجسد المتشكّل من روح الشَّعب. فالتجريب فيه يمسّ تلك المعطيات العضويّة في بناء الشخصيّة الإنسانيّة. ثمّ إن للشِّعر بناءً مائزًا، بخلاف النثر، الذي هو فنّ الحريّة المطلقة في البناء والتشكيل».
.
وعلى صعيدٍ مواز نجد أن العرب باتوا ينظرون لفنِّ الرواية بترقب متفائل من القادم، أما الشعر فيرمقونه بحنينٍ لماضيه القريب أو الأبعد! لنسأل د.عبدالله لماذا هذه النوستالجيا المقيمة تجاه الشعر، وكأن الآتي منه هو باتجاه الأردأ؟ يقول : «الشِّعر هو ديوان الضمير الإنساني، وسِجلّ التاريخ، ومستودع اللغة، ولاسيما في أُمّة شاعرة، كالأمّة العربيّة، الشِّعر فنّها الأول، ورصيدها الجمالي العظيم. لذلك فالقلق بشأنه لا يمكن أن يعادِل القلق بشأن فنٍّ حديث كالقِصّة والرواية. غير أن القلق على مستقبل الشِّعر لا يخصّ العرب وحدهم، لكنه قلق عالميّ، يثيره الشاعر الأمريكي (دانا جيويا) - مثلاً- من خلال كتابه «أما زال للشِّعر مَحَلّ؟». والأمر لا يتعلّق هنا بمستوى الجودة، بل بمستقبل وجود الشِّعر من حيث هو، في عصرٍ تتخطّفه الماديّات والأيديولوجيّات».
.
.
.
-4-
«خنت الشعر مرة فخانني للأبد»
_أحلام مستغانمي في حديثٍ حول توقفها عن كتابة الشعر_
.
يضمِّن د.عبدالله في كتابه (حداثة النص الشعري في المملكة العربية السعودية) رؤية مفادها أن سواد النقاد تخلوا عن مهمة السمسرة في سوق الشعر، ليجدوا في السرد ضالتهم المثلى. ومن هذا المنطلق نسأله عن حالات موازية تتمثل في نزوح الشعراء للسرد بأسماء تتخلى بالتواتر عن الشِّعر باتجاه الرواية والقصة القصيرة؟ يجيب : «عبر التاريخ الأدبي كانت الرواية شِعرًا، من خلال الملحمة، وكان الأدب كلّه ينبتُ شِعرًا، وما زال الشِّعر نموذج الأدب الأرقى. إلاّ أن الشاعر الحقيقي لا يتخلّى عن الشِّعر إلاّ بتخلّيه عن الحياة. أمّا التجريب فجادّة مشروعة، ومثرية. لقد كنتُ طرحتُ بحثًا عام 2006 بعنوان «القصـيدة - الرواية : تداخل الأجناس في بلاغيّات النصّ المعاصر»، قدّمته في المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي، البلاغة والدراسات البلاغيّة، الذي أقامته الجمعية المصريّة للنقد الأدبي، بالتعاون مع جامعة عين شمس، في القاهرة 1-5 نوفمبر 2006. وقبل ذلك بسِتّ سنوات تقريبًا كنتُ اقترحتُ هذا المصطلح، ونشرتُ قراءات حول بعض الأعمال الكتابيّة منه في السعوديّة. لقد رأيتُ في تلك البحوث أنه إذا كانت الرواية في العصر الحديث قد جاءت وريثة الملحمة الشعريّة، فإن «القصيدة - الرواية» تأتي بمثابة ارتدادٍ إلى نوع من ذلك الجنس الأدبي المهجور. غير أن (القصيدة - الرواية) تتخلّص من حِدّة الحضور ذي الوجود الكامل لكلا الجنسين - الشِّعريّ والروائيّ - كي تُنشئ نمطاً جديداً من التماهي بينهما، وإنْ كانت كفّة الشِّعريّ فيها تميل إلى الرجحان. وما قامت عليه أطروحتي لم يكن متمثّلاً في نصوص لشعراء كتبوا أعمالاً روائيّة، ولا على محض نصوص تتداخل فيها الرواية بالشِّعر، بل على نصوص لها خصائص مائزة نوعيًّا، وذلك لأن كتّابها شعراء أولاً، ولأن ما أنجزوه - تحت مصطلح رواية - ما هو إلا نصوص شِعريّة لغةً وبناء، تتشبّه للقارئ في قوالب روائيّة أوّل وهلة، فإذا ما أمعن فيها النظر، تكشّفت له عن أنها لا بروايات حقيقيّة ولا بقصائد خالصة، بل هي في منطقة وسطى بين الجنسين. وقد أنجزتُ قراءات في ثلاثة أعمال من هذا النوع، هي «سقف الكفاية»، لمحمّد حسن علوان، و»الحزام»، لأحمد أبي دهمان، و»الغيمة الرصاصيّة»، لعلي الدميني. جدير بالإشارة هنا : أن البحث في شأن الجنس الأدبي لا يزال في النقد العربي جديدًا؛ لأنه منشغل بقسمة حدّية للأدب إلى : شِعر ونثر، دون النظر في التوالج بين الدائرتين، أو بين عناصر كل دائرة. هذا إضافة إلى ذلك التعليل العام الدارج من «أن التعرّف على الأجناس الأدبيّة وتحديدها أكثر صعوبة من الفنون الأخرى أو من الأجناس الخطابيّة غير الأدبيّة»، كما يقول (جان ماري شيفير) في كتابه بعنوان «ما الجنس الأدبي؟». ويأتي مثل هذا الشكل الكتابي - الذي اقترحت له اسم : (القصيدة - الرواية) - نتاجًا حداثيًّا، تنطمس فيه الفروق بين الأجناس الأدبية، حيث بات الشِّعر يتقمّص النثر، منذ تي. إس. إليوت، أو إي كامنجز، كما يتقمّص النثر الشِّعر، كما هو الحال عند وولف، أو جويس، أو نيكوس كازانتزاكي. وحينما استعملتُ مصطلح (القصيدة - الرواية) فقد كنتُ أنفي - كما ترين - عن هذا النوع شِعريّته وروائيّته، في الوقت نفسه. لأقيم له هويّة في منزلة بين عالم الشِّعر وعالم الرواية. وعليه فإن نزوح الشعراء للسَّرد - كما جاء في السؤال - أمرٌ يبدو طبيعيًّا لأسباب تاريخيّة ومعاصرة، وإن لم يقتضِ حتميّة تخلّي الشِّعر عن نفسه».
.
.
.
-5-
«النقد هو ملَكة التقدير»
_إيمانويل كانت_
.
في مرحلة ما وجدت القصيدة العامية حظوة كبيرة، خاصة لدى الأوساط الشعبية، حتى سميت خطأً أو مفارقة بالقصيدة الشعبية. إلا أن هذا الاحتفاء لم يجد أصداءً نقدية توازيه.. نسأل د.عبدالله إذا كان جفاء سواد النخبة الثقافية لها أصّل مع جفاء النقاد؟ يجيب : «حظوة القصيدة العاميّة - للأسف - هي في مختلف المراحل الحديثة، وهي مستمرّة ومتزايدة في الأوساط الشعبيّة وبعض الأوساط غير الشعبيّة أيضًا! وأقول : «للأسف»؛ لأنها ترسّخ في المستوى الثقافي ارتدادًا إلى قِيَم شفهيّة، وقوالب اجتماعيّة تضيق بنفسها وبغيرها، تعيدنا إلى الخَلْف، بعد تفاؤلاتنا بانتهاء الأميّة العربية، ونشر التعليم، وتوحيد اللغة العربيّة، وجعلها لساننا العالمي، وإعدادها لتكون صالحة لمواكبة متطلّبات العصر والتقنية، وجامعتنا العربيّة والإسلاميّة الأكثر صمودًا في وجه التشظّي وتهديدات الغزاة. كما أن العاميّة تمثّل لغة رديفة للغتنا العربيّة، التي كان يجب أن تكون وجهنا ويدنا ولساننا إلى العالم، وأن لا ندع - تحت أي عاطفة لهجيّة - ما يبلبلها، بأي شكلٍ من الأشكال؛ فذلك سينخر البيت العربي ويقذفه في مهبّ الذوبان العولمي والضياع التاريخي. كما أن ذلك الاحتفاء طيّب الذكر لا يكتفي بشفاهيّة العاميّة كما عاشت اجتماعيًّا، بل يستغلّ الطباعة، والصحافة، والإعلام، والفضاء كلّه، لتحويلها من الشفاهية إلى الكتابيّة ثم إلى الالكترونيّة، وعبر«الإنترنت» والأقنية الفضائية والأرضيّة، في طوفان عاميّ يرسّخ أدبًا ثانيًا غير الأدب العربي، الذي كان قد توحّد منذ قيام دولة كندة في العصر الجاهلي، وقيام أول وحدة عربيّة، وشعور بالشخصيّة العربيّة الواحدة، ممّا تمخّض عن لغة أدبيّة واحدة للعرب، كان لأسواق العرب دورها في توطيدها، ثم كان للقرآن الكريم أهميته القصوى في فرضها وجعلها لغة العالمين العربي والإسلامي، بما أنها قد ارتبطت بالكتاب الكريم وبالدِّين الإسلامي. وهكذا أفضى الاحتفاء بالشِّعر العامي إلى أن يشكّل تراثًاً آخر، يستدعي منا مثل هذا السؤال اليوم، وبشكل طبيعي واعتيادي، فقد بات للعاميّة في وجداننا حقٌّ مكتسب، يتلوه حقٌّ مكتسب في ذمة العِلم والعلماء والمؤسسات العلميّة والثقافيّة! وهو ما لم يكن له محلّ قديمًا من الإعراب، سِوى هامشيًّا، على هامش الأدب الأندلسي، في نطاق زجل ابن قزمان مثلاً، إبّان الصراع بين ملوك الطوائف، أو في المشرق العربيّ في غضون أزجال شاعر كصفي الدين الحلّي، عقب حِقَبٍ من التداعيات والانهيارات، أي بعد أن أصبحت الساحة العربيّة، كما وصفها المتنبي:

مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَو سارَ فيها
سُلَيمانٌ لَسارَ بِتَرجُمانِ

بل لقد استدعت العاميّات الشعريّة اليوم ما هو أكثر في بعض الجامعات، أي الاحتفاء الأكاديميّ، وفي بعض المدارس الاحتفاء المنهجي، لتربية الأجيال على الدوران في فلك ذلك الماضي، دون حلمٍ بانعتاق. هذا الاحتفاء له خطورته اللغويّة والثقافيّة. فاللغة مُلك أمّة وحضارة، وليست مادة فنّيّة محايدة، لكلٍّ أن يلهو بها ليشكّلها كيفما شاء، والخروج على اللغة هو خروج على ثابت ضروريّ، وعلى هويّة قوميّة، والاحتفاء بذلك الخروج خروج موازٍ، ودعم مشجّع، ومؤصّل لشرخ لغويّ وثقافيّ وسياسيّ. من هنا فنحن مع سؤال الشِّعر باللهجة العامّية خارج لعبة الفنون، أو تقسيم الأوساط بين شعبيّة ونخبويّة، وجفاء واحتفاء. نحن هنا مع سؤال من نحن؟ تبعثه لغةٌ انفصاليّة، وأنماط تعبيريّة وثقافيّة، لها بنياتها المتّصلة المنفصلة، وثمة مكمن المرض فيها والفساد. وتسليمنا بهذا الواقع هو تسليم بأننا لا نرى بأسًا بأن تكون لنا لغتان أو أكثر، وأدبان أو أكثر، وعلينا إذن أن نرضى بأن نكون بأكثر من لسان، ووجه، وشعب، ووسط.. كُلّها ضعيفة، مندحرة بين الأُمم، لا تمثّلنا ولا نمثّلها. المسألة هنا أعمق من حياديّة السؤال عن : قصيدة، أو التعاطف مع نمطٍ تعبيري، أو التعصّب للهجة، أو التساؤل البريء حول ناقد. وعليه، يمكن القول إن هناك أسبابًا مبدئيّة لابتعاد الناقد عن دراسة الأدب العامّي من جهة، وأسبابًا تخصّصية من جهة أخرى. نعم، إذا كانت الدراسة بهدف الإفادة من ذلك الشِّعر في بحث لغويّ يعود بالنفع على العربيّة، أو في دراسة تاريخيّة أو بيئيّة لها مردودها الحضاريّ والاجتماعي والعلميّ، فتلك أمورٌ مهمة ومفيدة، بل واجبة. أمّا إنْ كان تأسيسًا لاستمرارنا على أدبٍ نشأ أصلاً في عصور جهلٍ وفُرقةٍ وانحدار لغويّ وانحطاطٍ ثقافيّ -لا يشرّفنا بقاؤه فضلاً عن خدمته وإطالة أَمَده - ففي ذلك خيانة ثقافيّة ووطنيّة جذريّة، ونكوص عن الدور الباني للأدب والنقد والعِلم. ثم في سبيل ماذا؟ في سبيل أدبٍ لا جديد فيه ولا إضافة تُذكر، حتى على المستوى الفنّي، سوى اجترار ما عرفته القصيدة العربيّة منذ العصر الجاهلي وعبر ألوان مسيرتها الطويلة الطويلة؟! فهل المكاسب تعادل الخسائر؟ إن النقد ليس بغاية لذاته، بل هو وسيلة علميّة للتقويم والارتقاء والنهوض، لا للمجاراة، والتنازلات، والبثّ الدعائي لعملٍ أدبيّ أو اتجاهٍ معيّن. على أن عدم النقد هو في حدّ ذاته موقف نقديّ».