وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

الثلاثاء، شعبان ٢٦، ١٤٢٧

قراءة// في مسرحية «سنوات مرّتْ بدونك»0


اليوم الثقافي
الثلاثاء 26 - 08 - 1427هـ

الموافق 19 - 09 - 2006م

قراءة في مسرحية «سنوات مرّتْ بدونك» 00


دعوة من جواد الأسدي إلى واقع أجمل بكثير من الأمل وقليل من الألم


يرى البعض أن اتجاه الكتّاب المسرحيين لطبع نصوصهم يستلزم بعضاً من الجرأة، والكثير من المغامرة.. خاصة عند التوجه للقارئ العادي بمعزل عن المُشاهد الذي قد يقع مسبقاً تحت سحر النص أثناء العرض الحي، فكيف بنصٍ لم يجد سبيلاً للإخراج على الإطلاق، إلا أنّه في نص العراقي الدكتور جواد الأسدي (سنوات مرّتْ بدونك) ما يشجّع القارئ العادي لتناول الـ 126 صفحة من الكتاب ، و الصادر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع، بمتعة و ملؤه ألم للواقع المنطلق منه دون أن يتطلبه الإلمام بقواعد التجريب، أو ضوابط النص المسرحي..
حيث تدور الحبكة حول «خزعة» من نخاع الحياة في العراق اليوم، بتركيز إنساني لا يجنح للشاعرية البحتة، أو الرموز الأسطورية التي تدبَّج في العديد من إبداع المشهد الثقافي العراقي.

إنّ القصة التي تتناول عائلة «فيصل» قد تشبه في بعض تفاصيلها ما قد تتناقله تقارير القنوات الإخبارية عن الحياة هناك رديف كل نشرة.. من العيش تحت وطأة الانفجارات، و سرادق العزاء، و القليل من الهدوء، والأقلّ من الأمن.. بتركيبة عائلة تجد علاقاتها الداخلية ملّغمة بقدر ما هي الشوارع بالقلق، و الصدامات التي يفرزها العديد من الظروف.. بدءًا بالاختلافات الطارئة من الاحتلال الأمريكي، وما تلاه من إفرازات سياسية، و اجتماعية أعادتْ الابن الغائب «شهاب» ، وزوجته «صوفيا» بعد غربة لمدة 23 عاماً عن الوطن؛ ليبحثا وسط الوضع الموقوت عن فُسحة لإبداعهما الموسيقى، و الغناء، في محاولة لتعميق الأمل ولو بمثالية: كمنجة ضد عبوة ناسفة!
بضديّة يَكْسَبُها العنف في بداية المسرحية:

ا(( يستمر العزف بينما دوي المدافع يسيطر على صوت الموسيقى التي تختفي رويداً رويداً، يبقى القصف و زخّ الرصاص قوياً جداً.. )) ص 13

إلا أنّ الموسيقى تجد لها جولة انتصار في موضع آخر:

ا(( مع كل انفجار قنبلة يرد شهاب عليها بضربة من عزفه على الفيولن.. تتصاعد الانفجارات.. يتصاعد العزف.. شيئاً فشيئاً صوت الموسيقى يطغى على دويّ الانفجارات، وغناء صوفيا يصدح مع كورالات، و عزف جماعي. )) ص 126

على صعيد آخر تتواتر أبعاد الشخصيات الأخرى بما يخلقه واقعها من تناقض وصراع مع الداخل من جهة، والخارج الذي يبدأ تَغَلُّقُهُ من عتبة الباب، فمن الابنة «ساجدة»، ومحاولتها مقاومة بؤس واقعها بالتفرّغ الكلي للتعبّد، و انقطاع تام عما حولها، كمفرّ خلاص، إلى جانب العم «شاكر» (الأخ الأكبر لفيصل) بصراع لا يجد له فرج.. بين ما كان عمله في خدمة النظام البائد، و ما قد يتطلّبه ذلك من ثمن بعد زوال النظام، في وقت يرى أنه سيؤخذ بجريرة طغيان النظام دون ذنب منه فيما اُرتكب من جرائم كما يزعم..
مما يُغرقه في تخبّط جلي لمن حوله سرّب تفاصيله الكاتب بحذق ، خاصة فيما عكسه من صراع بين أمسه و يومه، في نوعية الملابس التي يخلط فيها المزيجين بتنافر يجعله في هيئة تخيف «صوفيا» التي تراه لأول مرة، وعائلته نفسها.. عدا عن سلوكه المتناقض الذي يوحي بذُهانٍ يرفض الإقرار به:

ا(( لستُ من النوع الذي يريد أن يعالج الأشياء بالعنف ، والاشتباك! لا ، أبدا..ً أظن بأنني صرتُ غير ذلك الشخص الذي تعرفونه! إني أمر بمرحلة اغتسال.... ورغم أن هناك تفاوتا في نظرة الآخرين لحياتي القديمة والحالية لكن الذي أريد لنفسي هو كثيرٌ من قليل لا يدركه الآخرون عني.. )) ص 48

ومن منطلق ذلك قد نجد الأم «فخرية» هي الشخصية الوحيدة التي تُحكم تماسكها بما يشبه أساس يشد أَزْرَ بيتٍ يؤول للسقوط.. بين زوجٍ يتنصل من مبادئه كأكاديميٍّ يدّرس علم الفلسفة ليتحوّل إلى عقاريٍّ برأس مال مشبوه تحصّل عليه إبان الفلتان الأمني عند احتلال بغداد.. إلى ابنة تُغدق في جفائها باسم التديّن، و حَمَوٍ (شاكر) تلوك تناقضاته تعاطفاً مع وحدته/ عقابه، وكأن ذلك كله في سبيل وَهْمٍ أكبر: جعل مصاعب الحياة الجلية أقل وطأ على الابن العائد، وزوجته؛ لضمان ائتلاف الأسرة من جديد تحت سقف مشترك، ولو بسعادة تُبلع على مضض لا تتأتى من داخل الأسرة نفسها بقدر ما الأمر أزمة تعم البلاد فقط .

ومن ناحية.. نجد أنّ الكاتب فعلياً ينجح في تخفيف توتر الجوّ العام للشخصيات بمنفذ حضور موسيقى «شهاب» ، وتداخلها مع غناء «صوفيا» ، وما يتصاعد معهما في بعض المشاهد من أداء لكورالات تجعل من أصوات الرصاص، و القذائف أقلَّ وقعا..

إلى جانب اللمسة الكوميدية في شخصية «طريف» صديق العائلة، والطبيب النفسي الذي يرى النصف الممتلئ، و الفارغ في الكوب على قدم المساواة، ففي أول لقاء لطريف مع شهاب وصوفيا يقول:

ا(( نحن سعداء جداً بعودتكم ، وبالموسيقى التي تريدون أن ترموها بوجه هذا الدويّ المرعب.. ربما تكون موسيقاكم دواءً لنفوسنا المتوجعة! )) ص 29

إلا أنه ما يلبث أن يصحو مارد يأسه مع تواتر الشد حتى يصرخ في حالمية شهاب فيقول:

ا(( في أي عمى نخوض! أتيتَ واضعاً في رأسك الكثير من الأحلام، أتيتَ وأنتَ تتطلع إلى حياة آمنة، إلى بشر أسوياء عن أي موسيقى تتحدث مع هذا العزف العدمي! )) ص 114


و من جانب آخر يتأتى للقارئ الانتقال بين مشاعره بما يوازي تناقض الشخصيات نفسها، فيجد نفسه على سبيل المثال متعاطفاً مع خوف «صوفيا»، و قلقها المتواتر من الوضع الذي لم تتخيل مجابهته.. إلا أنه قد يصل لمرحلة من السخط في حين آخر تجاه استسلامها المتوالي، و تفضيلها الإياب للغربة.
كذلك هو الحال تجاه «شهاب» من حيث التعاطف مع أحلامه ، و مشاريعه الموسيقية الحالمة، والتي حمّسته للعودة، حتى تعتري القارئ موجة غضب تجاه حالميّته، و محاولاته تجاوز المواقف المتأزّمة بين أفراد عائلته باللجوء إلى العزف. وهكذا دواليك تجاه جميع الشخصيات.

أما على صعيد المكان فقد برع الكاتب في رسم التفاصيل بما يساعد استحضار مكان حقيقي تقوم فيه الأحداث، و إن عاد القارئ لواقع أن النص يتخذ له المسرح كمساحة عرض، و هو ما حققه الأسدي من تنقلات بين وصف التفصيل، و من ثم الانتقال للكادر العام: بين مقدمة المكان، وعمقه، و توزيع البرديات التابعة للمشهد، وغير ذلك من التفاصيل المُحْكَمَة التي يتطلبها النص المسرحي بصفة عامة، و على صعيد المثال يصوّر الأسدي في مقدمة كتابه تفاصيل البيت الذي تدور الحبكة فيه بحس عال من الشيئية العميقة كما يلي:

ا(( بيت فيه لمسات من العتق ثرياته متدلية من سقف الهول، الذي يتكون من تقاطعات لشبابيك قديمة تكون النسيج النفسي والروحي للمكان، طاولة عليها أكوام من كتب قديمة، تلفزيون وكنبة، تتركب مع الشبابيك الخشبية الغارقة في القدم، بشكل متقاطع ومتداخل.... في الجهة اليمنى من الهول ثمة أرجوحة ترتبط بمدخل لحديقة واسعة وباب بيت كبير.... وهناك ستار ينزل من سقف المسرح عموديا، يفصل بين الهول ومقدمة المسرح، لتكون مساحة متخيلة تتحقق عليها المشاهد الخارجية.)) ص11

أما الزمان الذي تدور فه الأحداث ، والذي عنونه الكاتب ببغداد الآن، فرغم الآنيّة التي ترتبط بالوصف إلا أنها تعطي مجالاً مفتوحاً من الأعوام المقلقلة بين أفواجٍ من العائدين من المنفى، و الغربة الاختيارية، أو العائدين لذواتهم بعد الصحو من «سَكْرَة» ما بعد النظام الديكتاتوري إلى «فكرة» الاحتلال والنزاعات الداخلية!.. وصولاً لآثار جانبية للحياة في عراق اليوم ، إلا أننا بكثير من الأمل ، و الألم ربما - كما يرى الأسدي - يمكن أن يُحيا واقع أجمل0




منال العويبيل