وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

الأربعاء، شعبان ١٦، ١٤٢٨

حوار// الشاعر زياد آل الشيخ: نقل الواقع مهمة وكالات الأنباء وليست مطلوبة في الشعر

الشاعر زياد آل الشيخ:
ممارسة سلطة الاختيار على القارئ مهمة فاشلة
نقل الواقع مهمة وكالات الأنباء وليست مطلوبة في الشعر!


حوار - منال العويبيل

يختلف مفهوما الشاعرية والشعرية عن الشِعر وإن لازما قائله، وفي هذا الحوار سيجد القارئ نفسه إزاء شاعرٍ يمسك بتلابيب هذين المفهومين من أعلى المطلع لأخمص القصيدة، حين يمضي في ترانيمه الأندلسية حتى يُظن أنه شاهد عيان تلا خروج أبي عبد الله الصغير من غرناطة، وحين يشاغب المُعاش حدّ تبسّم النادل الباريسي لحنينه لرفاق الرياض، وأضعف تصبره قهوة عربية..

هكذا بقدرةٍ شعرية كفيلة باستحضار المتناقض، والعمل على مزجه وتزجيته نصَّا. وبينما ينتظر صدور ديوانه الثاني (سنابل حب) عن دار الخيّال اللبنانية، الذي يلي ديوان (هكذا أرسم وحدي) 2004م، كان لنا معه هذه الحوار.

- 1 -

(الشاعر «وحده» قادر على اجتياز العتبة التي تفصل الحياة الواقعية، عن حياة أخرى ما ورائية)

-نيرفال-

غربة قصيدة اليوم أم اغتراب شاعرها أحد مآزق الشعر الحالي؟ لم يعد الفرق واضحاً، بما أنه حتى الفواصل التي أسسها منظّرو الفنون باتت تقصر قاماتها حتى صارت البحور ممتزجة دون برزخ. ورغم أن الأصوات المعاصرة خاضت في محيط الرتم اليومي، والتفاصيل المعاشة، إلا أن غالب النصوص أعطت ظهرها للواقع صوب مآرب أخرى.. فهل ابتعد الشعر اليوم عن الواقع.. بمعنى اقترابه لصورة خيالية مجمَّلة أو مشوهة أحيانا؟ بحيث يخلق الشاعر لقارئه عالماً أجمل، أو أحزن من حقيقته.. أين يضع الشعر قدميه اليوم؟

يجيب زياد آل الشيخ: في المجمل نعم، لكن هذا الابتعاد أخذ منحى مبالغا فيه حتى انفصل عن الواقع، ومسألة تجميل الواقع أو تشويهه ليس أمراً جديداً، وهو من الآثار الجانبية للعملية الشعرية، يبتعد بالمجاز والاستعارة للشروط الجمالية التي يستعين بها الشعر، يخرج بها عن المعنى الحقيقي لآفاق جمالية للإمتاع، ولتعميق الشعور بالمعاني، ومن ذلك تنتج الصورة التي في سؤالك، هذه الصورة الخيالية التي تشوه أو تجمل. لكن نقل الواقع ليس من مهمة الشعر على أية حال، يقوم بها عنه واس أو رويترز أو كاميرا العربية، لكن لا يحق للشاعر تزييف الواقع بداعي المبالغة أو التعدي على المقدسات بحجة المجاز، هذه مسائل أخلاقية لا يعفى منها الشعر بالتأكيد، و د.الغذامي تعرض لهذه المسألة في كتابه «النقد الثقافي»، والعلاقة بين الجمالي والأخلاقي في الشعر كونهما أمرين منفصلين مسألة تعرض لها النقد القديم عند الجرجاني والقرطاجني وغيرهما.

أما الشعر اليوم فيمر بمرحلة حرجة على صعيد سؤال الواقع، بين الواجب الجمالي والواجب الإنساني، الالتزام بقضية الواقع أم الالتزام بقضية الجمال، هل يمكن التوفيق بينهما؟ وفي ظروفٍ أخرى هل يهم أن نوفق بينهما أصلاً؟ هل تخترق رصاصة هشاشة طفل ونظل نهيم في مجاز المجاز كالسكارى؟ يحدث هذا الآن، هناك شعر يجب أن يقال، كفرض كفاية على أقل تقدير، أنا لا أعني الشعر السياسي المباشر بالضرورة، لكن الشعر الذي يعبّر عن قضية خارجة عن الإطار الذاتي الضيق، نحن نعيش في أكثر مناطق العالم توتراً، في هذا الإطار كيف يختلف شعرنا عن شعر العالم؟ أعتقد أن هذا السؤال ملحّ تاريخياً ».

وعلى هذه الوتيرة من المضي لأصالة المعنى، بإمعانٍ يلبس في أثره أناقة اللفظ والإيقاع في قصيدة آل الشيخ، يوافق ذلك التمسك الشكلي بالوزن، يقول عن ذلك: « كلماتي لا تخرج دون معطف التفعيلة في الشتاء، ولا تتمشى دون نعل الإيقاع في الصيف، ليس عن موقف مسبق أو ما شابه، إلا أنني لا أتخيل القصيدة دون وزن، قد يكون الإيقاع متحقق في أشكال متعددة، فالنثر له إيقاع، والتفعيلة لها إيقاع، والعمودي له إيقاع، فمفهوم الإيقاع يختلف عن الوزن، الإيقاع أكثر تعقيداً، والاعتماد عليه وحده يمثل لي مغامرة غير مأمونة العواقب، ربما لهذا السبب أميل إلى الوزن الذي يقع في مساحة معرفية أكثر بياضاً، ولا أجد مبرراً في الحقيقة للتنازل عن الوزن في وقت ينتشر فيه اللاوزن، ممثلاً في الرواية، والقصة، والمقالة، وما سواها. الغريب أن كثيرا من شعر التفعيلة من السهولة الاعتقاد بنثريته؛ أي خلوه من الوزن، وهذا يحدث كثيراً لشعراء التفعيلة، والكبار منهم كذلك، فيعتقد خطأً أن بعض قصائد التفعيلة غير موزونة، إذ تتخذ إيقاعاً نثرياً مع بقاء الوزن ».

- 2 -

(إن الشاعر يعرف ما يجهله)

_جوزيف جوبير_

من بداية مطلع قصيدة (نجد 1300هـ) للشاعر زياد آل الشيخ، يأخذ القارئ بإيغالٍ إلى المتواري بالكتمان، وما تمادت به الذاكرة بالجفاء، لأنَّ حتى استحضار ذاكرة «الشِيبان» وعجائز نجد فيه من العناء ما يشبه حدوثَ أليمِ التجارب مرةً أخرى. فحكايا سنة الجوع، الغرقة، الرحمة.... تجلب معها ما يفوق التذكّر لتكرار الوجع، وشجون أخرى. وبما أن مخاطبة المتلقي قد تجعل الموقف في نصوصٍ ما بين ضفتين: قائل داخلي وسامع حر، نجد في هذا النص تأبطا يجمع الاثنين، يشبه مباشرة الخطاب في القصيدة، عبر فَتحٍ شعري يعيد خلق حالة معينة بعد استبطانها ومرورها عبر الذات..

«أخرجْ من البئرِ استرحْ

الليلُ آتٍ لا مَحَالةَ،

قرْبَتانِ ستكْفيانِ فقد نرى في القَريةِ الأخرى هدى

[عمَّا قليلٍ ننْتهي فانوسُهُ السحريُّ سوفَ ينامُ

قريتنا سرابٌ ربما

الماءُ الذي في قِرْبَتي سأرِيقُهُ

خوفَ الرَّدى،

من يأمنِ الصحراءَ في الليل

الذئابَ،

البردَ،

قُطَّاعَ الطريقْ] *

نسأل الشاعر في ظل هذه الفوهة من سبابات الإشارة التي تَرِد مع كل صيغة أمر في القصيدة للمخاطب فيها، والقارئ في ذات الوقت: على مستوى الاستحضار الشعري ممن هو خارج الإطار الزمني/ المكاني بهيئته الموجوعة.. ما الذي يخلقه ذلك في مكنون الشاعر ذاته؟ وبالتالي يوقظ حضوره في المتلقي؟يقول زياد آل الشيخ: « في اعتقادي أن هذا الحضور يجري في ذاكرتنا الخلفية إن صح التعبير، هو حاضر في حياتنا من خلال تاريخٍ يعيش فينا، قسوة الحياة الصحراوية ورقتها ليست عنا ببعيد، فضلاً عن ذلك، ليست التجربة الشخصية في رأيي إلا امتدادا لتجارب أخرى على مستوى اللغة والتقاليد وقسمات الوجوه، هناك الكثير مما تحمله هذه الوجوه من تعابيرٍ وإشاراتٍ ومعانِ، الذي يجعل هذا الاستحضار أسهل لمن يعيش هذه البيئة.

لكن لا شك هناك هذا التناقض الضدِّي بين المكانين والزمانين في ذاتيتي الشخصية من خلال استحضار هذه التجربة التي تمثل عملاً شاقاً لتلبس الحدث في هذه القصيدة، وهو _على ما أعتقد_ نوع من العمل الانثروبولوجي الشعري للكلمة، هنالك كلمات تجد لها مكاناً طبيعياً في بيئة قصيدة من مثل (نجد 1300هـ)، وربما ينتج عن هذا الاستحضار ما يشبه حضور الغائب، أي أن يكون الغائب حاضراً في القصيدة لتكون وظيفته التضاد مع الحاضر، فيبرز هذا الحاضر بشكل أوضح، فالضد يظهر حسنه الضدّ، فالقصيدة في هذه الحالة تضع في المقدمة ما ليس موجوداً في واقع قارئها، لعلها توقظ في وعيه نشوة الانتصار كما لو كان أحد شخصيات هذه القصيدة وقد بلغ مدينته المجازية التي يبحث عنها، ربما لا أدري، أو لعله يشعر بالظمأ فيقوم إلى الثلاجة باحثاً عن كأس ماء، هذا السيناريو الأخير أراه أقرب إلى الواقع برأيي ».

- 3 -

(الزمن من أكثر أنماط الوجود خضوعًا للخيال)

_وك ويمزات_

غالباً ما يُخضع الشِعرُ الزمنَ إلى رؤيته الإشكالية التي لا يتحكم فيها سوى الخيال. وبصفة أعم نجد للزمان والمكان في القصيدة تأثيرا عميقا على تعيين الحالة الشعرية في أي نص، لدرجة تأثيرها أحيانًا في الموسيقى الداخلية والخارجية. وفي غالب نصوص زياد آل الشيخ يتبدى الزمن قادماً من بعيد، وكأن الشاعر يرمق المشهد عن بُعد؛ بمنحى يوثّق صوته لحدث ولا يتقاطع معه..

« يقول: لقد أصبحتَ نافذةً من الزجاج على غرناطة الآن هل نطلُّ

منها متى شئنا؟ ونخدشها متى

أردنا كأغصانٍ وزوج يمامِ؟

أطلوا، سوى أني سأرخي ستائري

فلا فضةَ الذكرى ترون ولا الرنينُ

لي لغتي حصني الذي خلف سورهِ

أعلِّق قلبي غابةً من نخيلٍ

كيف يفهم هذا الأعجميُّ كلامي؟!» *

لن تستغرب أن يأخذك الشاعر لليالي أبي عبد الله الصغير الأندلسية، آخر أمراء غرناطة، سفراً عبر التاريخ، ومساحات أموية تحتمل ضمّة الحب، وكسرة الحرب. نسأل زياد آل الشيخ: هل تراه ينتقي الزمن في النص أم هو من يفرض حضوره «الماضوي» ؟ وبالتالي هل يؤدي ذلك لتلقي قارئٍ من نوعٍ خاص يختمر في ثقافته تلك الأبعاد؟ليجيب: « هذه ملاحظة مهمة، ولا أستطيع أن أتصور كيف يمكن للزمن أن يفرض نفسه، بالنسبة لي هو خيار فنّي بحت، قد يستنفد الغرض منه وأنتقل إلى أسلوب مختلف مستقبلاً. أما مسألة القارئ ففي تصوري أن الخصوصية قد تكون مزيجا من الثقافة والذوق، ولا أتصور فصلاً بينهما، لكن على المستوى المعرفي البحت، أعتقد أن القصائد التي تتخذ هذا المنحى الماضوي أو التاريخي، تمثل تحدي للقارئ، خصوصاً القارئ الذي لا يهتم بالتاريخ كثيراً، ويبحث عن المادة المتصلة بالواقع مباشرة، لكن لا يعني أن هذا القارئ لا يملك القدرة، كأن يحتاج إلى شهادة عليا في التاريخ ليصبح قادراً على التفاعل مع القصيدة، هذا غير وارد، إذن المسألة ليست مسألة طبقية، لكنها مرتبطة بالذوق والرغبة، ومساهمة الشعر في فتح آفاق معرفية للقارئ هي من الأدوار التي يجب أن يقوم بها الشعر الحديث، جزء من مساهمته في إثراء الثقافة كأحد روافدها، ما الضير أن يبدأ القارئ علاقته مع التاريخ من خلال قصيدة ؟! ».

«العاطفة وقود الشعر، وليست هناك عاطفة نخبوية أو شعبية» هذا ما يقوله زياد آل الشيخ، وهو أمر لا يُختلف عليه، لكن هل يمكن تعميم هذه الفكرة على النص؟.. ألا توجد لديك نصوص نخبوية بأبعادها التاريخية أو خياراتك اللغوية؟ ليجيب: « الإشكالية دائماً تنتج عن مفهومنا للنخبة، ورغم رفضي لهذا المصطلح عمومًا إلا أنني أعتقد بوجود نخب ثقافية متعددة، دائرة تتسع وتضيق، وهناك نخب على مستوى الذوق فهي ليست ثقافية فقط، وهذه النخب تتقاطع، وبهذا التصور يذوب مفهومنا للنخبة على أنها طبقة متجانسة ككتلة واحدة، لأننا نتكلم عن فن لا عن علم، في العلم توجد طبقة يمكن تعريفها من خلال مقاييس معرفية أو مؤسسية كالانتساب إلى مؤسسة أكاديمية أو الحصول على مؤهل عال وما إلى ذلك، لكن الفن مختلف، فالفن يقبل تفسيرات متعددة وهو بطبيعته متاح للجميع، فيمكن للقارئ أن يفهم النص بشكل يختلف عن غيره، وهذا الفهم من تركته الشخصية التي لا تدخل في حصر الإرث. فمن هذا المفهوم الذي ذكرت، يمكن أن أتصور أن خياراتي الشعرية فيما يتعلق بالأبعاد التاريخية والخيارات اللغوية، قد يجد قبولاً بين نخب مختلفة سواء ذوقية أو ثقافية يصعب علي تصورها، فحركة الثقافة في المجتمع معقدة، لذلك الحكم على عمل قبل نزوله بالنجاح أو عدمه كثيراً ما يفشل، هذه الحركة تحمل في طياتها كثيراً من المفاجآت سواء في الشعر أو في غيره ».

- 4 -

(الشعر تجاوز للواقع العيني، فهو ليس حقيقة كاملة، سوى ضمن عالمٍ مغاير وأخروي)

_بودلير_

الشِعر عملية إنتاجية، من أجل الذات ولأجل الآخر، وقد يكون باتجاه ما لم يُعرف بعد. الذي يعده البعض تحديداً ذروة معرفة القصيدة. والطريق إلى هذا الاتجاه إذا كان مفروشاً بفضاءات بصرية واسعة يعمّق علاقة القارئ مع رحلته التذوقية للنص.

«أسافر من راحتيها بدون جناحينِ من نسْجِها،

وحرير يديها ولكن على فزةِ الشوقِ في مقْلتيها

أسافرُ في لغتي المرمريَّةْ

أسافرُ عكْسَ اتجاهِ السنابلِ، ضدَّ انشغالِ الحقول

ِإلى حيث أفقدُ تفَّاح وقتي وبوصلتي الذهبيَّةْ

إلى عالمٍ لا يراهُ سوايَ إلى حيثُ ينبتُ قلبُ

الغريبِ وروداً وتعشبُ كفُّ العطايا

مرايا على رعشاتِ الغديرِ كجيدِ صبيَّةْ

لأسقي البلاد كلاما

فتمطر حولي سلاماً

سلاماً

سلاما »*

في هذا المقطع من نص (رحيل بين قافيتين) يحضر النسق المشهدي في قصيدة آل الشيخ، بفضاءٍ مليء الوفاض، لنسأله: الآفاق المكانية الشاسعة تُبرز الحس البصري في نصوصك، إذ يحضر المكان بفضاءٍ مفتوح، ومشاهدٍ تنتقل من البساطة للتكثّيف.. ما تراها العوامل التي عززت ذلك؟ يرد: « لا استغرب إن كان السفر قد ثقَّفني بصرياً، فالسفر يجعل الإنسان أكثر وعياً بالمكان والصورة، اختلاف الأشكال والألوان والناس أيضاً، لذلك نجد في الشعر الجاهلي غنى في أسماء الأماكن والتضاريس حاضرة بقوة في الصورة الشعرية، فهي صورة تنبض بالحياة، لكن بالنسبة لي شخصياً أرى أن الذائقة لها دور، فهو محض اختيار أيضاً، أميل أكثر إلى الصورة المحسوسة حتى لو كانت في صيغة مجردة، وهي بطبيعتها تستدعي القارئ للمشاركة في إكمال المشهد، فهي تحمل ديناميكية ذاتية، عند الحديث عن وشاح مثلا، للقارئ أن ينقش هذا الوشاح كما يريد، وليس لي أي سلطة في الحد من اختياره، ولا يجب علي أن أمارس أي سلطة؛ لأنها مهمة فاشلة! ».

- 5 -

(لدى الأوربيين كل الطرق تؤدي إلى روما، وكل الطرقِ تؤدي إلى الشِعر عند العرب)

_نزار قباني_

يؤكد بعض النقاد أنّ القصة القصيرة أقرب الفنون إلى الشِعر؛ لاعتمادها على تصوير لمحة دالّة في الزمان والمكان، ومن شأن هذا التصوير التركيز في البناء والتكثيف في الدلالة، وهما سمتان جوهريتان في العمل الشعري. ومن ناحية موازية بات النَفَس السردي في القصيدة يأخذ البعض رواجه كأسلوب انتصار لما يسمّى (زمن السرد).. وهو أسلوب حاضر في نص آل الشيخ، في مقاطع تلبس نَفَس الحكّاء.

«يأتيني الهدهد بعد صلاة الفجرْ

فيحط على غصن الزيتونْ

في عينيه الملأى بالدمع أرى مكتوباً من ورق البردي ملفوف بشريط أسود حول النصفْ

فأقول له ما الأمرْ؟ »*

في رؤية للناقدة د. فاطمة القرني تقرأ هذه الجزئية عبر قصيدة (الهدهد) التي سلف مطلعها، حيث وصفتها بأنها نموذج لصور القص التفعيلي التي يبرز فيها عنصرا الحوار الداخلي، والترميز التمثيلي على ما عداهما من عناصر القص. نتوجه بتساؤلنا للشاعر عن كيفية تعامله مع العوالم السردية في النصّ الشعري، هل هو مسلك مقاربة للفنيين؟ أم أخذٌ لأحدهما في اتجاه الأخر؟ فيجيب: « قد يكون عند بعض الشعراء حساسية حيال مصطلح (زمن السرد)، بما يمثله من غلبة السرد على الشعر، إلا أنني أعتقد أن المقارنة غير سليمة، حيث إن السرد موجود في الشعر من القدم، والشعر موجود كذلك في السرد، أنا لا أتكلم هنا عن الرواية، قد يستخدم السرد مرادفاً للرواية، لكن أتحدث عن التقنيات المرتبطة عادة بالسرد مثل: الخط الدرامي، وتقنيات السينما، والمونولوج الداخلي، وما إلى ذلك، كل ذلك ليس حكراً على الرواية، إذ يمكن جعل السرد أو الدراما عنصراً بنائياً في تركيب القصيدة، وهو ما سعيت إليه في كثير من قصائدي. فالشكل العروضي التفعيلي فتح باباً لاستثمار هذه التقنيات في القصيدة، مقارنة بالشكل العمودي، وهي تفتح أفقاً إضافياً، بُعداً رابعاً إن شئتِ، فلو نظرنا إلى معلَّقة امرئ القيس التي تمثل النموذج التأسيسي الأمثل للقصيدة العربية، نجد العنصر القصصي حاضر بشكله السردي والحواري بقوة في القصيدة، فمن ذلك نتساءل عن إضافتنا إلى هذه التجربة المبكرة في القصيدة العربية، لنجد أننا لم نتقدم كثيراً على هذا الصعيد حتى وقت مبكر، فإذا أخذنا ذلك في الاعتبار يمكن أن نقول إن في السرد مساحات شاسعة للاكتشاف، وقد يكون هذا التوجه ملائماً الآن لمقاربته روح العصر كما أشرت في السؤال ».

_اتجاه_

الموقع الشخصي لزياد آل الشيخ

http://www.alziyad.com/


الثلاثاء، رجب ٢٤، ١٤٢٨

تحقيق// غياب المحرر الأدبي وخراب مالطا الإبداع المحلي

غياب المحرر الأدبي وخراب مالطا الإبداع المحلي
د. علي الرباعي: لا يمكن التقليل من عمل فني متكامل بسبب غياب المحرر


منال العويبيل - الرياض

«صدرت رواية «سعوديات» لسارة العليوي في نهاية العام المنصرم 2006م، وطُبعت حتى الآن طبعتان، وتستعد لطباعة الثالثة، ويغلب على الرواية اللهجة العامية، كما أنها مليئة بالأخطاء الإملائية، والتي بررتها العليوي بأنها «ليست أستاذة في اللغة»، واعتبرت ذلك ليس شرطاً لإصدار رواية»..
انتهى الخبر، ويبدأ الطرح: نجد أن علاقة المبدع العربي بالمحرر الأدبي لازالت (وستظل فيما يبدو) علاقة ملتبسة، فإن تغاضى المتلقي _ مكرهاً لا بطلا _ عن هفوات بعض الأسماء الجديدة، لا يمكنه تجاهل فئة كبيرة من الكُتّاب البارزين الذين يُلبسون نصوصهم نوعاً من القداسة، ويسبغون عليها من الغيرة المبالغ فيها ما يصدهم عن التعامل مع المحررين الأدبيين الذين بات دورهم متصاعد الأهمية في دُور النشر الأجنبية، حيث تخضع نصوص أبرز الكُتّاب العالميين لأدوات المحرر الذي من المفترض عليه أن يقوم بعملية التدقيق والتصحيح، وصولاً لتخليص النص الأدبي من الزوائد.
هذا الإجراء الذي لا يسلم منه حتى بعض من نالوا جوائز نوبل للآداب، دون أي حساسية، أو مساس بقاماتهم الإبداعية. وبالتالي، يظل دور المحرر الأدبي الغائب عن واقع النشر العربي عاملاً يعزز خروج أعمال تشوهها الأخطاء النحوية واللغوية، فضلاً عن الضعف الفني. والعديد من الروايات المحلية مؤخراً شاهدة على ذلك الغياب.وحول ما إذا كان غياب المحرر الأدبي عن واقع النشر العربي إشكالية هامشية أم بأهمية اعتبارها أحد أسباب تدهور الإبداع المطبوع، توجهنا بعدد من التساؤلات لعدد من مبدعي الوسط المحلي.


وحول ما إذا كان غياب المحرر الأدبي عن واقع النشر العربي إشكالية هامشية أم بأهمية اعتبارها أحد أسباب تدهور الإبداع المطبوع، توجهنا بعدد من التساؤلات لعدد من مبدعي الوسط المحلي.القاصّ والروائي صلاح القرشي يجد أن مسألة تفعيل وجود محرر أدبي أو مصحح لغوي في دور النشر هو أمر مهم.. وخصوصا من جهة وجود الكثير من الأخطاء النحوية والإملائية في بعض الأعمال الجيدة, كون وجود مثل هذه الهنات اللغوية يقلل من جمال العمل ويشوهه.
القاص فهد المصبح يرى أن حضور المحرر الأدبي عربياً لا يتعدى إقحامه من قبل جهات خاصة بما هو شاذ عن تخصصه؛ فيعمد إلى المواءمة والتواجد على الساحة بشكل مرتبك مربك يزيد السوء سوءا يلمعه بالإثارة, وهذا مرجعه إلى غياب التخصص عندنا؛ يستعاض عنه بالقارئ الواعي المتلقي، أو الناقد الموضوعي، والناشر الملتزم بقضية الأدب والنشر، إذ يقول أحد النقاد الأكاديميين: إن (راء) كلمة ناشر أبدلت (بلام) فأصبح «الناشر» «ناشل»!
للقاص الدكتور علي الرباعي رؤية مغايرة لما سبق حيث يرى أنّ التحرير الأدبي موهبة لا تقل أهمية عن المنتج الأدبي والإبداعي، إلا أنه لا يمكن أن نقلل من أهمية عمل فني متكامل بسبب غياب المحرر، فكم من مواد محررة بشكل لافت لكنها لا تحمل فنية، ولا فكرة، وتفاصيلها مملة، والمبدع هو المسئول الأول عن تحرير وطباعة أعماله بطريقة تليق بمستواه، بعيداً عن العبث والمؤثرات الجانبية.

القاص علي الزهراني يرى أن دور المحرر الأدبي مهم جدا، وفي اعتقادي _ كما يضيف _ يتجاوز دوره دور «مقص الرقيب» إلى بلوغ ذروة الإبداع، إلى القمة. حتى افتراضاً لو شاور الكاتب بعضا من أصدقائه حول منتجه الأدبي، وأخذ آراء عدة، بالطبع مختلفة، عندها أليس هذا هو دور المحرر الأدبي؟ بل عليه تقع المسؤولية كاملة في نجاح أو فشل المنتج الأدبي من المخطوطة إلى دور الرقيب اللغوي حتى طباعته! أم غيابه معناه مزيد من الفشل والعري وأحلام السراب؟
*
*
*
*
قف / STOP !!
أما إذا ما كان إقصاء المحرر الأدبي تترتب مسئولية تفعيله على دُور النشر العربية، بل واشتراطه على موافقة طبع الأعمال الأدبية، أم أنها مسئولية الكاتب بالاتفاق مع من يتولى تحرير نصّه كحل وسط، ومن ثم يقوم بتسليم النص لدار النشر جاهزاً للطبع.. وما قد يتأتى من آليات تحيي هذا الدور ترفع لافتة توقف لتداعيات الوضع الراهن. يقول صلاح القرشي: المسؤولية هنا تخص الجهتين, جهة الكاتب, وجهة دار النشر, وربما لأن بعض دُور النشر العربية لا يهمها غالبا سوى قبض الثمن فهي لا تكلف نفسها عناء قراءة العمل، فما بالك بتصحيح تلك الأخطاء النحوية والإملائية.. شخصيا، أعتقد أن وجود مصحح أو مراجع للعمل من جهة اللغة هو أمر مهم، ويضيف للكاتب وللكتاب الكثير، كما يجنبه أيضا الكثير من التشوهات المعيبة.
أما فهد المصبح فيؤكد جازماً أن الأمر بلا شك حق للكاتب، ولا أحد سواه، إلا من يرتضيه قيما على إبداعه, فيوكل إليه بالمراجعة والتهميش على النص، ويدققه قبل دفعه إلى جهة النشر, وأرى أن الأمر فيه خلط بين طبع عمل كامل في كتاب، وبين نشر عمل في صحيفة, وأغلب الكتَّاب يجعل النشر لا الطبع (بروفة) لتلافي أخطائه جراء تلقي آراء القراء، فيكون حرا في تعديلها أو عدمه, أما طباعة العمل في كتاب فلا يحق للكاتب بعد ذلك التعديل أو الاعتذار عن خطئه، بل يحاسب عليه فنيا ورقابيا لا يملك معها إلا التراجع مصحوبًا بالاعتذار، إذ هو أصبح مسئولاً أمام الله والعالم عن كلماته وأفكاره.
علي الزهراني يورد مثالاً ليسوق رؤيته حول هذه النقطة، إذ يقول: لدي مثلاً منتج أدبي، ووضعته على طاولة المحرر الأدبي، وتركت له الحرية كاملة يتصرف كيفما يشاء، ولكن بشرط _ هنا مربط الفرس _ ألا يتعرف «المحرر الأدبي» على كاتب النص، ولا على مسماه النهائي، لكي يكون حكمه مجردًا وبموضوعية وحيادية، وأظن هذا هو السائد! أما قضية الاتفاق بينهما فأعتبره «عبثا كتابيا مخلّطا»، وأما إقصاء دور المحرر الأدبي فهو كمن يستجير من الرمضاء بالنار!
د. علي الرباعي يرى أن العبرة ليست بكتابة العمل فقط، بل على منتِج النص أن يراجعه، ويعيد قراءته في بروفته الأولى والثانية، ولا حرج في الاستعانة بمتخصصين لمساعدته في اللغة والتشكيل، فالضعف وفشل العمل محسوب على الأب الشرعي للمنتَج.
*
*
*
*
حضرت الشرارة وبطل الفتيل !
في تصريح للروائي الجزائري المقيم في إيطاليا (عمارة لخوص) رفض فيه أن يُمنح النص الأدبي أي قبيل من القداسة، وأشاد بدور «المحرر الأدبي» في دُور النشر الأجنبية الذي يرفضه معظم الكتّاب العرب، واصفاً إشكاليتهم بالغيرة المبالغ فيها على أعمالهم، حيث يرفض الكاتب العربي أن يقترب الناشر من رواياته أو قصصه «التي يغار عليها كأنها زوجته» على حد وصفه.
ولو اتفقنا على فكرة تقديس المبدع العربي لنصّه بما يصل للمبالغة، نتساءل عن كون ذلك ثقة عمياء في المستوى الإبداعي الذي لا يرغب بأن يُمس، أم إظهار التمكّن الكامل بالأدوات اللغوية والنحوية، ليجيبنا صلاح القرشي بقوله: لا أعتقد أن المسألة لها علاقة بفكرة التقديس, لكن ربما يعود الأمر إلى ثقة مفرطة لدى بعض الكتاب بتمكنهم اللغوي، أو ربما يتعلق الأمر أحيانًا بالاستعجال أو الاستسهال، أو الاعتقاد بعدم تأثير بعض الأخطاء على العمل الأدبي.أمّا فهد المصبح فيؤكد على أن التشوه والأخطاء والضعف الفني ستتواجد مع وجود المحرر الأدبي وغيابه, غير أن أمورا كهذه يمكن تلافيها, أما جوهر العمل ونفحة الإبداع فيه فلن يوجدها تواجد الناس جميعا, وهو أمر مرتبط بالكاتب صاحب العمل.
ويضيف: ولا أخفيكم بانحيازي نحو اعتزاز وتمسك الكاتب بنصه مادام العمل الأدبي ليس مطروحا كورشة (أي لم يكتمل)، هنا يحق لنا التعالق مع النص مهما كان ولمن كان, ويستوي في نظري الحذف والإضافة للنص كتشويه له، ما لم يكن بإذن واتفاق مسبق مع الكاتب, فإن قولتني شيئا لم أقله في نصي، أو حذفت منه شيئا قلته وأثبته فهو جريمة في حق النص وكاتبه، وأظن أننا نعود إلى الرقيب أو الوصي من حيث نشعر أو لا ندري.
أما د. علي الرباعي فيوجز رؤيته في فكرة مفادها أن القداسة للنصوص مبالغة لا أظنها تصدر عن وعي بقدرة الذات وقدرات المتلقي.علي الزهراني يجد ادعاء المبدع العربي بأن منتجه الأدبي مقدسًا أو ثقته الكاملة بنفسه ضربًا من الغرور والخيلاء، في ظلّ المعطيات السابقة.. يقول: هناك أكبر دليل على صحة ما أقول، فالقصة الكاملة في «سورة الكهف»، وكيف أن موسى عليه السلام اعتقد أنه أعلم بكل شيء سوى الله سبحانه، ثم تفاجأ أن هناك شخصا آخر أعلم منه، وهو الخضر عليهما السلام، والله طبعا أعلم من الجميع، قال تعالى: ((وما فعلته عن أمري)) الآية.
وبرؤية موازية يقول: إن حرية كاتب المنتَج الأدبي يُعتبر نوعًا من الديمقراطية، بمعنى مطاطية التقديس، كون مبدع المنتج الأدبي (مشهورًا أم مغمورًا)، ويراه حسب رأيه واعتقاده (الأصلح والأكثر من رائع)، وهذا حقه طبعًا، لكن دون المساس بإبداع من يمارس النقد (المحرر الأدبي)، وفي ظني لابد من أن نعطي حرية أكثر للمحرر الأدبي بتجاوز دوره اللفظي أو النحوي، بل نعطيه بلغة المسرح خلْق «نص آخر» لا يقل إبداعًا عن النص الأصلي، عبر إيراد الإيجابيات والتنويه عنها صورة وتألقًا ومتعة، وفي نفس اللحظة إيراد السلبيات وفضحها على الورق والتحذير منها، كون المنتج الأدبي لا يخص المبدع الكاتب، بل بعد طبعه ونشره سيكون ملكا للقرّاء لقمة سائغة بالهناء والشفاء! فلنعتبره «المحرر الأدبي» مكملاً، بل بروازاً لاكتمال الصورة في حلتها النهائية، لكن لابد من قلم مشرط المحرر الأدبي أن يتجرد من الدوافع الشخصية، بمعنى أصح ألا يدخل المنتَج الأدبي غرفة «العناية المركزة» في حالة احتضار، وطبعًا لا يقترب «المبدع الكاتب» من الثالوث المحرم، عندها لا بد من إجراء عملية قيصرية فورًا، ولا يهم بعدها أن يولد خديجًا غير مكتمل النمو!!
*
*
*
*
سلّمٌ بالعَرض
على هذا الصعيد أثيرت مؤخراً قضية القاص جار الله الحميد الذي هدد باللجوء إلى القضاء لاسترداد مجموعته القصصية من نادي الرياض الأدبي، بعد أن تلقى الحميد قائمة التعديلات والتصويبات التي اشترط المحكِّم قيام الأول بها كشرط لطبع مجموعته.
وعلى هذا الأثر طرحت السؤال على المشاركين عبر تجربتهم مع الإصدار الخاص، حول إذا ما سبق أن تعاونوا مع أي نوع من المحررين الأدبيين، وتقبّلهم لهذا التوجه، ليجيب علي الزهراني: لي مجموعتي القصصية الأولى بعنوان «السعلي» قدمتها قبل سنة لناد أدبي، وجلستُ انتظر قرابة الستة أشهر حتى أنهاها «المحرر الأدبي»، فقرأتُ ملاحظاته النارية وكأني اقرأ نصوصي لأول مرة، من كثرة الملاحظات عليها، ولكوني أعلم بجهبذة وحرفنة وإبداع من كتبها قمتُ فورًا بتغيير أغلبها، بل بعض عناوين القصص، ولم أجد حرجًا في ذلك. والآن لدي مخطوطة كتاب نقدي بعنوان: (قراءة في إبداع شعراء الساحة) قدمته للدكتور الكبير عالي القرشي، ومن الآن ليس لدي أي حساسية أو غضاضة في تقبل نقده على كتابي النقدي الجديد.
صلاح القرشي أجاب أنه لم يسبق له التعاون مع محرر أدبي بهذه الصفة،.. لكنني _ كما يردف _ وخصوصا في روايتي الأخيرة (بنت الجبل) حرصت على أن يراجعها بعض الأصدقاء الذين لديهم إلمام جيد باللغة من جهة النحو وجهة الإملاء.. لأن هناك أشياء قد تغيب عن ذهن كاتب العمل، ربما لقربه الشديد والمستمر من عمله. وفي مجموعتي الأولى كانت هناك أخطاء نحوية كان لي أن أكتشفها لو كنت اقرأ لكاتب آخر، لكنني وقعت فيها.. لكن في الرواية كانت الأخطاء _ والحمد لله _ قليلة، أو شبه معدومة.
على ذات الحال كانت إجابة فهد المصبح، يقول: لا لم يحدث لي أن تعاونت مع أي محرر أدبي, لكنني راجعت كتبي مع أكثر من شخص، ودفعته للتدقيق الإملائي والنحوي, وأحيانًا بمقابل، حتى يكون الحرص اشد في المراجعة, وبالمناسبة أشكر كل من ساعدني وشاركني الهم والمعاناة.
*
*
*
*
أقوى من الشدَّة أطول من المدَّة
في مطلع التسعينات الميلادية، أو قبلها، نالت البرامج التلفزيونية التعليمية (مع التنبيه على كونها تثقيفية ممتعة أكثر مما يوحيه اللفظ) نالت حضوراً مميزاً أثرى الذائقة على مدّ الوطن العربي، عبر برامج من قبيل (المناهل) من الأردن، و(مدينة القواعد) من العراق، وسلسلة برامج الإعلامي المميز (شريف العلمي) بتكثيف جمالي لحضور اللغة العربية الأصيلة، بقوالب سلسة قرّبت إليها الصغير والكبير.
ما ذُكر أعلاه ليس لغرض الحنين فقط، بقدر استحضار شخصيات من قبيل (مصحح الغلطاوي) في برامج شريف العلمي، الذي دأب فيه على تعديل الأخطاء اللغوية.. إضافةً لحضور المصحح اللغوي في (مدينة القواعد) بإطلالاته الرخيمة عبر فقرة (قل ولا تقل)، حيث تثبّت الصورة بعد كل خطأ (لا يُفتعل حضوره)؛ ليُمنح صوت المصحح فرصة التعديل المؤدِّي الأدوار، عوضاً عن التعديل المونتاجي للخطأ؛ لغايةٍ مثرية تتمثل في تأصيل ما تم تصحيحه.
فيا ترى، كم من محرر أدبي متمكن يحتاجه الإنتاج الإبداعي العربي، ولو من وراء حجابِ ناشر، ليستقيم عوج الوضع الراهن؟! مع التنويه بأن ليس كل محررٍ أدبي كعبث الشرير خربوط في برنامج (المناهل)، وفي ذات الوقت لن يتأتى لكل الأدباء بطولة (أبي الحروف) اللغوية.

الأربعاء، رجب ١٨، ١٤٢٨

تحقيق// «الجسد» كبطاقة حمراء في وجه الشاعرة السعودية


اليوم الثقافي
«الجسد» كبطاقة حمراء في وجه الشاعرة السعودية
هيا العريني: دخول الجسد في القصيدة بعفوية الشاعرة عمل إبداعي مرغوب


- الشاعرة بديعة كشغري -
منال العويبيل - الرياض

يراهن البعض على احتلال الجسد لاهتمامٍ كبير في الدراسات الإنسانية في القرن الحالي، خاصةً بعد إدراك المدارس الفكرية المختلفة لمدى تغييبه في الماضي، وإذا اعتبرنا الشعر «ضمنياً» كأحد الدراسات الإنسانية.. نركِّز عبر هذا المقام حول ولوج «الجسد» في شعر المبدعات المحليات، في ظلّ اعتباره عتبةً تذهب بسالكتها لخطٍ أحمر طوعاً أو كرها.
فمن منطلق ما سبق «ولأسبابٍ أُخر» غُيِّب الجسد في كثير من قصائد الشاعرات السعوديات، وعند إحالة ذلك لسؤال تُجيب الشاعرة هيا العريني (غيداء المنفى) عليه بقولها: ربما يعود ذلك إلى الحصار الذهني على الأنثى، ومحاولة إحباط أفكارها لحضيض الدونية في حالة الدخول للجسد، وربما الخوف من فتح بوابة تعجز عن إغلاقها.
بينما تنحى الشاعرة (بديعة كشغري) لمزيدٍ من التفصيل، فتقول: إذا سلّمنا بأنَّ الشعر نوع من الخلق الفنّي الذي يتواشج فيه الوعي واللاوعي، كما يمتزج فيه الإدراك الذّاتيّ/ الآنيّ بالجمعي/ التراكمي، فإننا لا نستغرب غياب الجسد في قصائد المرأة العربية عامة والسعودية خاصة، لارتباط كتابة القصيدة بالواقع الاجتماعي المتحكَّم في نظرة المبدعة لذاتها، والممارس رقابته على هذا الإبداع منذ القدم.
أما الشاعرة (أمل الفرج) فتؤكد على ذكورية المجتمع كسبب للغياب، تقول: الانطفاء الجسديّ في شعر الأنثى له أسبابه في مجتمع ذكوريّ كعالمنا العربيّ برغم الانفتاح، ولكنْ يبقى هذا الجانب للأنثى عموماً جزءاً من نفسها، فنراها تحتفظ كثيراً بتعابيره الخاصّة لنفسها, ولا تُظهرها شعرياً.
وعلى ذات العائق الاجتماعي ترى الشاعرة (أسماء الزهراني) أننا نحيا في إطار اجتماعي صلب يصعب القفز خارجه، بصرف النظر عن طبيعة هذا القفز، ومشروعيته.
الشاعرة (هيلدا إسماعيل) تركِّز على ضغوطات المجتمع، حيث تقول: أظننا محكومين بمعايير اجتماعية راسخة لا تقبل الجدل، بينما تعدّ أكثر خطورة من شائعات سرعان ما تنطفئ؛ لأنها ببساطة تعمل ضدّ نفسها، خاصة حين (تهمِّش) جزءاً كبيرا من اللغة، و(تهشِّم)جزءاً آخر منها.
أما الشاعرة (أمل القثامي) فترى أن النص الجسدي لا يعني أنَّه فضائحي، بل يخلق فضاءه الجمالي في ذاكرة القارئ؛ لأنَّ الحياة وكل حركاتها نتاج جسد، فالمتلقي يميل إلى تلك التعبيرات الجسدية، كونها تترك له مساحة خصبة من التأويل. النص الجسدي هو في الحقيقة بؤرة الاهتمام الشعري منذ القِدم، والشعر الجاهلي ارتكز على ثمار الجسد الإيحائي والحسي، وهو من أعظم الشعر إلى وقتنا الراهن. وأستغرب الآن هذا الاستنكار لحضور مفردات الجسد، ولاسيما إذا كان المبدع أنثى!.
أما الشاعرة (كوثر الأربش) فتفسِّر رأيها بنظرة ذاتية: الجسد بالنسبة لي مجسٌ للحالة النفسية.. منحنى ينخفض، ويصعد للتعريف عن حالة الروح، والوجع، والفرح.. ولا يمكن أن يكون مجرد معرضٍ لصور مخبَّأة. جسد المرأة مثال تعود له الصور, فالشمس الصاخبة مثل جسد دافئ.. وهكذا.
*
*
*
حلالُ السرد.. حرامُ القصيدة!
يكاد يُجمع المختلفون على هذا الطرح أنَّ حضور الجسد في القصة أو الرواية غالباً ما تُلتمس له أعذار سردية، بينما يُعاب حضوره في الشعر حد المهاجمة.
ا(الخوف) سببٌ يتصدر رأي (هيا العريني) التي علَّقت: الخوف من حضور الجسد في القصيدة ربما يعود لكونه (الرمز المثير للغرائز)؛ لتفرّده في القصيدة بمضامين ربما تكون ضبابية، بحكم الحرص على انتقاء مفردات تحكمنا في القصيدة، أمَّا في الرواية؛ فبالإمكان بناؤه بجملٍ أكثر عفوية وإيضاحا.
أمّا (هيلدا إسماعيل) فتبدد الشكوك حول جوازية ذلك، تقول: جمالية النص الشعري ترتكز على المعنى الاحتمالي الذي لا يقدّم إجابات قطعية. قد تكون نوعاً من لعبة التخفي والانكشاف الخاضعة للابتكار، والمتمسّكة بتجربة لا تعطّل الحواس، ولا تبتذلها، ولا تحبسها داخل رؤية مغلقة. فالشعر الحقيقي هو الذي يَخضّنا شعورياً، ويؤهب خلايانا لحدوثه، الذي لن يعبر «الجسد» من خلاله محايداً، مبتذلاً، إنما برواز يتعانق مع الروح بفنيّة متكاملة.
أمّا التبرير الذي يحدث في السرد فتفسّره (أمل الفرج) بقولها: المنجز السرديّ يُعنى باستمراريـّة الوصف وتطويق التفاصيل، فلا تضره هيمنة الجسد أو غيرها، أمّا الشـّعر فأجمله معتمد على الرمز والومض!.
ا(أسماء الزهراني) تجد هذا نتيجة لمفهوم خاطئ تأتى مع رواج الكتابة السردية حاليا.. فالشعر فنّ النخبة، والرواية فن الجماهير، لكنْ لا علاقة لهذا بالتمييز العنصري بينهما فنياً، التمييز نسبي يتعلق بظروف التلقي، لكنْ لكلِّ فن قوانينه.
ذاتية النص الشعري تجدها (بديعة كشغري) أحد الأسباب المباشرة مقارنةً بالسرد: فحضور الجسد في السرد النسائي نلتمس له الأعذار، أما في الشعر فالإدانة مباشرة، لأنَّه أكثر العمليات الإبداعية خصوصية، وغالباً ما يتحدث الشاعر (بضمير المتكلم). هذا لا يعني وجود مبرر لمن ينظر هذه النظرة السطحية لوظيفة الشعر.
*
*
*
بين عرضية الغياب وتعمّد التغييب
وحول ما إذا كان غياب النص الجسدي مقصوداً من قِبل الشاعرة.. تتراوح رؤى المشارِكات إثباتاً أو نفيا، حيث رأت (بديعة كشغري): إنَّ الأمر انعكاس للنظام الاجتماعي الموروث الذي يربط «الجسد» بالجنس، ويربط الجنس بالشرف بمجَّانية جاهزة، وهو جزء من فخ «التابوهات» التي تنكر على المرأة حقها الإبداعي في التعبير عن جماليات العلاقة التي يرتقي فيها الحسي والروحي. هكذا عندما تكتب المرأة القصيدة عليها التخيل أنها في «غيتو» جسدي عازل يحظر عليها التعامل مع المدركات الحسية، مما يؤثر سلباً على فنية القصيدة. ويؤدي لشرخ جمالي وإنساني في التجربة الحياتية.
ا(لا شك أنّ المرأة ذات وعيّ مختلف لصياغة الشـّعر الجسديّ) هذا ما قالته (أمل الفرج) التي تردف: وأراها _أي المرأة_ تتقنه بجموحٍ لو أرادت, ولكن طبيعة عالمها، والمنبت الاجتماعيّ يجعلها تركن إلى تقصّـد غيابه.
ا(أسماء الزهراني) ترجّح تعمّد الغياب وعرضيته، فترى أن الأمر مزيجٌ من هذا وذاك، فهي تفعله بتأثير الإطار الاجتماعي الذي نشأت فيه. لكن ينبغي أنْ يظل الأمر خياراً فنياً تملكه الشاعرة دون خشية للتصنيف.
ومن زاوية التجربة الخاصة تطرح (أمل القثامي) رؤيتها بقولها: الجسد في قصيدتي يأتي من رؤيا معرفية ثقافية لا أهتم فيها بتفصيلاته إلاّ في سياق علاماتي/سيميولوجي يخدم رؤيتي التي أرومها. وبما أني أحب أن تكون لي خريطة شعرية مميزة، فإني أميل لاستعمال (النص الجسدي) في كثير من عباراتي الشعرية بكل أبعاده الثقافية والإيحائية والأسطورية... .
أمَّا (هيلدا إسماعيل) فتنحى لتفسير مغاير يرتئي أن الجسد لا يلبث أن يطفو بعفوية على سطح القصيدة، تقول: جميع الأفكار المُعبّر عنها شعرياً مهما أوغلت في التجريد والمواربة.. لا بدّ من استعانتها بالأعضاء، التفاصيل الصغيرة... ولكنْ إنْ أصبحت «لغة الجسد» في العُرْف الحديث «عيباً»، سيصل بنا الأمر لاختراع قصائد تتحدث عن كل شيء إلاّ ما يتعلق بنا، عن مخلوقات فضائية مثلاً ببنيَة فراغية، وعين واحدة في منتصف القلب، لم نرها، ولم نولد بها!
أمّا (هيا العريني) فتفسر الأمر بقولها: في بعض قصائدي ربما يكون غياب الجسد حالة لاوعي، وليست مقصودة.
*
*
*
ا«الجسد» في فخّ الإباحيّة
يمكن للمتابع استشفاف نظرة نمطية تعدُّ النص الجسدي نوعاً من الأدب الإباحي (الأيروتيك)، وهو ما ترفضه (بديعة كشغري)، تقول: هذا الاتجاه الجديد في قصائد الشاعرات يتجاوز التنميط، فهو ينطلق من وعيهن بعملية الإبداع التي تستجلي الجوهر، وتستبطن العقلي، بما يمكنها من صياغة الحالة الشعرية المدغمة للروح والجسد مع العناصر الكونية الأخرى. والشاعر الجيد هو من استطاع اكتناه كل هذه العوالم بأبعادها «السايكو جسدية».
رؤية (هيا العريني) ترمي لمسئولية مشتركة عززت النظرة النمطية، فتقول: (حين يسخَّر الجسد في قصيدة المرأة في بناء مفردات إباحية لإثراء غرائز ممجوجة ولفت الانتباه بتصنّع مقيت، فهذا له قرّاؤه، غير أنَّ دخول الجسد في القصيدة لاكتمال جزئياتها بعفوية ونضج الشاعرة هو عمل إبداعي مرغوب.
أمّا (هيلدا إسماعيل) فتنحى لتبني ما قد يبدد هذه النظرة، تقول: إذا كان «الجسد» أصبح بفعل المغالطات مؤخرًا وجهاً لعملة «البورنو/Porno» (الأدب الخليع)، فمن الواجب علينا كمثقفين إعادة «طهارة» خُلِقَ بها ولأجلها، ونراهن على المتلقي الذي لا يتجاوب مع النصوص من منطلق بدائي، بل يكون قادراً على إنقاذ ما تبقى من أحاسيس ضمرت تدريجياً نتيجةً لكل ما يتعرَّض له الأدب من هزّاتٍ نابعة من وسطٍ يروّج للإثارة عبر إعلامنا، وليس أمامنا من بديل غير التأكيد على الفروقات الحقيقية بين «الجنس» كسلعة هابطة تروّج للنص، وبين «الجسد» بمعناه الإنساني.
ومن منحى يغلِّط النظرة النمطية المذكورة تقول (أمل الفرج): الإباحية لا تكوّن أدباً. الجسد والروح هما فلسفة متكاملة للحياة, وآيتان من آيات الجمال، ولابد أن نحسن توظيف التعبير عنهما بعيداً عن التفسّخ.
أمَّا (أسماء الزهراني) فتقلل من أهمية الفكرة بقولها: المسألة في نظري نسبية، فمتى ما ظل الأمر في حدود الفن والجمال، لن يدخل في حدود الأيروتيك.
ا(أمل القثامي) تعوّل على توعية المتلقي، تقول: كشاعرة أطالب القارئ بتوسيع مداركه، وتقبّل (شعرية الجسد) إذا كان لها سياق هادف؛ لأن الجسد له امتداد تواصلي مع الكون الممتد، واستغناءنا عنه محال.
*
*
*
ا«الجسد».. في قلب الشاعرة
وبمنأى عن التفاسير القادمة من خارج الناصّة نستجلي رؤى الشاعرات عن حضور الجسد في قصائدهن، لتوضح (هيا العريني) بقولها: حضور الجسد في قصائدي يأتي لخدمة المعنى واكتمال القصيدة، وليس لي مآرب أخرى.. فأنا لدي سقف قريب من قامتي لا يمكنني تجاوزه حفاظا على سلامة رأسي ومبادئي.
بينما ترى (أسماء الزهراني) الأمر يعود للقارئ الذي يجد في حضور الجسد جرأة، أما لدى الشاعرة فيُفترض ألا يخرج عن كونه فناً وحسب. وتضيف: أومن بأنَّ الذوق والجمال لا يتعارضان مع الفن، فإذا خرج الأمر عن هذا الثلاثي تعدَّى السقف.
ا(أمل الفرج) تُشرع الباب لكل الاحتمالات، فتجد حضور الجسد ينصب في الجرأة، حرية التعبير، المغامرة، وأكثر! إضافة إلى عدم وجود حدٍّ للإبداع إن كان عفيفاً، فالتماهي مع الجسد في شعر الشاعرة لابد أن يكون متوازناً مع روحها، وأن تتنامى الأنا الأنثويّـة المشربة بالإبداع لتجد لها متنفساً خارج حدود الرجل المنغلق على نرجسيّـته، والمتغني بجسدها لتُنجز لها طابعاً تعبيرياً خاصّـاً ذا منظومة من القيـّم الأخلاقيّة والجماليّة.
أما (بديعة كشغري) فشددت على الخطوط الرفيعة بين الابتذال والفنية، حيث رأت: لا أميل إلى وضع «ضوابط» عامة أو خاصة بالشاعرة حول كيفية التعبير عن حضور الجسد. ولكن في اعتقادي أنَّ الشعراء يجب أن يرتقوا بتقنياتهم الفنيّة لاسيما في قصائد الغزل والوجدان. ويجب الانتباه إلى الخيط الرفيع بين الغزل والعهر (في قصائد الرجال خاصة)، فأنا ضد الغزل المبتذل بشكل عام.
وتفسر (كوثر الأربش) حضور الجسد في قصيدتها بفلسفة خاصة، حيث تقول: الجسد آخر محطة يبدأ بها عنصر الحب امتزاجه بالروح. الجسد ليس دائماً حاضراً بكله، ولا أميل لذكر أعضاء الأنثى بمسمياتها, أعتبر ذاك مسؤولية الراغبين بالوصول للقارئ بأقل تكلفة. أحب استعارة الطبيعة لأسمي بها كائنات أنثوية غاية في الخصوصية. ولا أذكر أنني أوردت الرَجل كجسد إطلاقا.
*
*
*
*
*
*
على مقصلة النقد !
في قراءة لرؤى المشارِكات في الطرح ينحت الناقد (حامد بن عقيل) ملامح نهائية لحضور الجسد في القصيدة من وجهة نظر الشاعرات يدشنها بقوله: تشارك في هذا الطرح سبع شواعر، ويمكن البدء بقراءة استجابة (هيلدا إسماعيل، وأمل القثامي، وكوثر الأربش). فقد ذهبت الأولى إلى اعتبار المعنى الاحتمالي هو ما ترتكز عليه جمالية النّص الشعري بدلالة واضحة على وعيها بفرادة اللغة الشِعرية في التعبير، وخطورتها كأداة تعتمد على الإيحاء أكثر من التصريح. وهو ما يجعل «الشِعر» عرضة للتآويل المجتمعية الخاضعة لفكرٍ مسبق لا بد من أخذه في الحسبان عند التعبير في ظل ما طرأ في العرف الحديث على «لغة الجسد» من تغيّر أدخلها دائرة العيب.
أما (أمل القثامي) فيبدو أنها لا ترتهن إلى خصوصية أنثوية تصطبغ بها نظرتها للتعبير الشِعري، فالجسد لديها هو الحياة. فتخفُّ في مشاركتها وتيرة الإدانة لمجتمعها الذي يكاد يجمع طرح الشواعر المشارِكات على أنه أحد أهم العوائق الحادة من التعبير الشِعري لدى المرأة. فتتماهى مع هذا المجتمع الذكوري، وتعيد، بوعي أو بدونه، إنتاج مقولاته والتصالح معها.
بينما ترى (كوثر الأربش) أنَّ لا ضرورة لإقحام الجسد داخل النّص إلا إذا دعت الحاجة، في إشارة واضحة إلى أنها تستخدمه كأداة للتعبير عن مرجعية يتم الركون إليها كأصل له ما يقابله في الحياة، وبهذه الصور الممثلة للجسد يمكن الاستغناء عن مسمياته الضّيقة التي لا يلجأ إليها إلا من أراد الوصول إلى الجماهير بأقل جهد. وهي نظرة فريدة فيما يتعلق بالفن الشِعري ووظيفته، إذ لم تسعَ لنفي أو إثبات حضور الجسد في النص الشِعري قدر سعيها لبيان فاعليته في استجلاء عوالم موازية وممثلة له في آن.
وفيما يتعلق بالشواعر الأخريات فتُجمع (غيداء المنفى، وأمل الفرج، وأسماء الزهراني) على أنَّ الحصار الذهني الناتج عن تسلّط ذكوري هو السبب في تغيّب الجسد عن قصائد الشواعر، بينما ترى (بديعة كشغري) أنَّ نظرة المبدعة لذاتها هي السبب في الغياب، دون إغفال الإشارة إلى أن هذا نتيجة لواقع اجتماعي مؤثر يربط الجسد بالجنس، فهو الفاعل في الغياب اللاواعي للجسد عن قصائد الشواعر، فيما تنقسم البقية حول وعيهن بحضور أو غياب الجسد في نصوصهن، ولعل في ذلك ما يدل على تعرض الشواعر بشكل دائم إلى فعالية تجريبية لا متناهية فيما يخص موقفهن من التعبير عن الجسد في منجزهن الشعري، ولعل هذا الارتباك الممتد ناتج عن عدم وضوح التحولات الاجتماعية بخصوص هذا الموضوع تحديداً، أو نظرته لحرية التعبير بعمومها، وخصوصاً لدى المرأة، ما جعل تجاربهن الكتابية تبدو تجريباً لا تهدف إلى الخوض في مناطق تعبيرية جديدة، وإنما اختبار مدى القبول الاجتماعي لهذا التجريب.
أما فيما يتعلق بالمحور الذي يقابل بين حضور الجسد في السرد والشِعر ارتكزت استجابات الشواعر الأربع على الرمزية التي يختص بها الشِعر عن الفن السردي، كما أشارت (الزهراني) إلى نخبوية هذا الفن مقابل جماهيرية السرد. وهذا ما يدل على أن الشواعر على وعي كبير بأنَّ رمزية الشِعر كامنة في ثبات الزمن داخله، إذ لا يمكن أن يحتوي على تفصيلات في القول تمنع المتلقي من إساءة فهم الرمز عند خوض غمار البوح بما لا يُحبّذ المجتمع الشرقي الخوض فيه.
لقد اختار القرآن الكريم القصة لسرد قصص الأمم لاشتمالها على الحركة الزمنية، بينما لو أريد لهذه القصص أن تروى بأسلوب شِعري لدخلت دائرة الأسطرة، وهو ما جعل الشِعر في منأى دائم عن التفصيل والاتكاء على الرمز. إلا أن تفسير الشواعر لنظرة المتلقي لا تنفصل عن البنية الذهنية الاجتماعية المتزمتة في نظرتها للرمز الجسدي في قصائدهن، والتي وصفتها (الزهراني) بأنها نظرة يغلب عليها الجرأة، فيما رأت (الفرج) أنه فضاء مفتوح للتآويل المجتمعية المتماهية مع نظرة مسبقة لإبداع المرأة.
وهذا ما يجعل المشارِكات يكدن يجمعن على رفض أي ضوابط للإبداع الشِعري النسوي بمعزل عن السقف الاجتماعي العام أسوة بالرجل. وقد جاءت استجابات الشواعر حول ربط النص الجسدي بالأدب الأيروتيكي متشابهة الدلالات رغم تناقض الاستجابات، إلا أن اختلاف الاستجابات لا ينفي أن الدال العام لها يشير إلى أن شاعرية الأنثى، كما ينظرن، لا تكمن في بنائيتها اللغوية، ولا في الصور الشِعرية المستقاة من خلال حضور الجسد، ولكنها شِعرية كامنة في الموقف الاجتماعي والنفسي الذي نجد المرأة تنحاز إليه في الغالب، ما يجعلها عرضة للتناقض المعرفي بين نظرتها الاجتماعية ومنجزها الإبداعي، وعرضة للتناقض الوجداني بين كونها جزءاً من منظومة اجتماعية أخلاقية ذات ضوابط هلامية غير واضحة المعالم، وبين كونها ترى في ذاتها ندّاً للرجل في تعبيره عن الجزء الحسي المتعلق بهذه التجربة.
ويختم بقوله: إنَّ مثل هذا الطرح في عمومه، دال على وجود ارتباك في نظرة الشواعر إلى وظيفة الجسد في النّص الشِعري، وعلى وجود تناقض بين ما يطرحنه تنظيراً، وما يمارسنه أثناء إنجازهن لنصوصهن الشِعرية، ولعل في هذا ما يؤكد على أثر «المسكوت عنه» بعمومه، ومنه الجسد، في توجيه الإبداع الشعري النسوي لمحاولة التعبير عنه في حدوده الدنيا، أو السعي لتبرير غيابه نتيجة لوجود بنية ذهنية مجتمعية معيقة لحرية الإبداع، ولا تقبل اختراق سقفها الأعلى، أو حتى الاقتراب منه.