وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

الثلاثاء، ذو الحجة ٢٩، ١٤٢٨

حوار// الدكتور عبدالله الفيفي (1-2)


الناقد وعضو مجلس الشورى الدكتور عبدالله الفيفي (1-2) :
إعلامنا لا يعكس القضايا المطروحة في مجلس الشورى بدقّة

ليست لدينا تجارب سينمائيّة تُذكر ليلتفّ حولها جهد نقديّ



حاورته : منال العويبـيل
حينما يتبادر إلى ذهن السائل مشاكسة د.عبدالله الفيفي بالأسئلة لن يخشى من ارتداد تقليدي الإجابات التي تبدأ بمفرداتٍ من قبيل : في الحقيقة، والواقع... . وسواء حاورت الناقد، أو الشاعر، أو عضو مجلس الشورى ستجد ذات الشخصية التي لا تحاذي الأسئلة دون أن تقطعها بكل صراحة ممكنة.
.
-1-
«الحقيقة بلاد لا طرق فيها»
_الفيلسوف الهندي كريشنامورتي_
.
«سيسمحون.. لن يسمحوا».. هي أكثر عبارات العامة رواجاً حيال أي قضية شائكة تُطرح في مجلس الشورى، منهم من يتداولها على غرار الرهان، أو الجدل، وقد يظهر بعض المعنيين بصورة كلاسيكية لحامل زهرة يقطف بتلاتها _على سبيل الأمل_ وعلى ذات الوزن : «سيسمحون.. لن يسمحوا».
في السنوات القليلة الماضية كانت قضية السماح بممارسة الرياضة البدنية للفتيات في المدارس، قيادة المرأة للسيارة، وصولاً لدُور السينما والمسارح من المواضيع الأكثر جدلاً في أوساط العامة، والتي نالت نصيبها أيضاً من التسليط الإعلامي خارج المملكة، بعد فترة من الهدوء النسبي للقضايا المطروحة على منبر حوار مجلس الشورى.. ما رؤية د.عبدالله الشخصية عضو المجلس منذ عام 2005م لهذه النقلة؟ وما نظرته لهذه القضايا الجدلية؟ يجيب : «مثل هذا السؤال يوجّه في رأيي إلى الإعلام، فهو الذي يهدأ أو يثور. وقد يثور ويُثير قضايا مرّت عَرَضًا، وقد يهدأ في صدد قضايا أكثر أهميّة للمواطن وأقوى طرحًا من خلال المجلس. وأعتقد أنه بسلوكه هذا لا يعكس القضايا الكثيرة التي تُطرح في المجلس بدقّة، ولا ينقل ما يتخذه المجلس من قرارات في شتى المجالات أو يسنّه من أنظمة تستغرق من الجهد والوقت والمناقشة الكثير. هذا فضلاً عن أن يكون للإعلام دوره بصفته وسيطًا أمينًا ومحايدًا بين المجلس والرأي العام. إنْ هي إلا كلمات تمرّ هنا أو هناك، ليركض وراءها إعلام «الخبطة العشوائيّة»؛ لأنها صادفت هوى، أو وافقت أسئلة جدليّة لدى شريحة ما، أو نكأت موقفًا من المواقف. ومهما يكن من أمر، فأنا مع مناقشة جميع القضايا التي تهم الوطن والمواطن، من قضايا المعيشة، والتعليم، والعمل، والمرأة، والفكر والثقافة، بشفافيّة تامّة، وفق صلاحيات المجلس، والمسؤوليّات الموكلة إليه، وفي إطار أولويّات لما يمسّ حياة الإنسان، وضمن رؤية شاملة، لا جزئيّة، ولا منحازة لتيّار معيّن أو مصلحة خاصّة، تعلو فوق ما تقتضيه المصلحة العامّة. أنا من المنادين بترسيخ هذا النهج واستمراره وزيادته وتطويره، وأن يؤدّي الإعلام رسالته، في دقّة وموضوعيّة واعتدال، لنقل الصورة الحقيقيّة من المجلس وإليه».
.
.
.
-2-
«إن كل الأساطير والانعكاسات الموضوعية لمخيلات الشعوب منذ ألوف السنين تنتظر البعث الضوئي، أي السينما»
_المخرج الفرنسـي آبيل غانس_
.
يمكن للمتأمل في الولادات السينمائية المحلية لمس الارتباك الحاصل حول أسس هذه الصناعة من عدة نواح، خاصةً في البون الشاسع بين التنظير الفاخر الذي يقرأه عبر الإعلام والواقع الركيك لسواد التجارب. ويذكر د.كاظم مؤنس (أستاذ فن الإخراج السينمائي) أن للبسِ الحاصل بين مفهوم النقد السينمائي - البصري والأدبي دورا مؤثرا في هذه العملية، حيث يخلط الكثيرون بين المفهومين، فتنتج رؤى ملتبسة تؤصِّل الأخطاء بالتقادم. ونجد أنَّ ظهور التجارب السينمائية محلياً أثار ذات الإشكالية التي يطرحها الأدباء والتشكيليون : غياب النقد. مع استثناء بعض الاجتهادات الإعلامية التي قد تترجم فكرة د.مؤنس. من وجهة نظر د.عبدالله الفيفي كأستاذ للنقد الحديث ما هو النهج الصحيح للتعامل مع فن يفتقد احترافية صانعيه فكيف بنقاده؟ يجيب : «دعينا نعترف أنه ليست لدينا محلّيًّا تجارب سينمائيّة تُذكر لكي يلتفّ حولها جهد نقديّ. بخلاف الحركة التشكيليّة. إن السينما والمسرح هما وسيلتا تعبير، أُولاهما معاصرة والأخرى قديمة قِدمَ الإغريق. يمكن أن تستخدما فيما يفيد وفيما يضرّ، تمامًا كالتلفاز، والمذياع، والهاتف المحمول، والإنترنت، والقناة الفضائية،،، إلخ. هي تقنيات محايدة في حدّ ذاتها، وما التردّد حيالها إلا لأنها ارتبطت بذاكرة أخلاقيّة ما، إلاّ أنه من عدم الحكمة ولا العدل التوقف عند لفظ (سينما) والغفلة عن المحتوى، الذي قد يكون صالحًا أو طالحًا. إنما مَثَل من مَنَع السينما أو المسرح هنا كمَثَل من مَنَع العطاشى من شرب ماء حتى ماتوا من العطش؛ بحُجّة أن قومًا ما شَرِقوا به فماتوا، على حدّ تشبيه (ابن رُشد)- في «فصل المقال»- حال من حرّموا الفلسفة. ولربما كان فيلم سينمائي، أو عرض مسرحيّ، أبلغ تأثيرًا من ألف كتاب. ونحن اليوم في عصر التقنية، والصورة. حتى الثقافة الورقيّة باتت مهدّدة بالتراجع لحساب الثقافة الإلكترونيّة والتلفازيّة. وفي هذا المضمار المعاصر، سيكون من المكابرة، والدعوة إلى التخلّف، الزعم بأننا في غنى عن الأخذ بهذه الوسائل الحديثة، تعليمًا، وتوعية، وتثقيفًا، ومدافعة في معترك الحياة، حيث يتلقّى الناس منّا بشكل أقوى وأسرع بما لا يقارن بتلقيهم مقالة أو قصيدة أو خطبة أو كتابًا ونحوها من وسائل التواصل الثقافية العتيقة. لقد غابت الفنون الموضوعيّة التشخيصيّة - من ملحمة ودراما - من تراثنا الأدبي العربي لأسباب ثقافيّة. وثقافة البيئة العربية ظلّت ثقافة قَبَليَّة، بكلّ قِيَمها النمطيّة، وعُزلتها الاجتماعيّة، وواحديّتها الرؤيويّة؛ حيث لا مجتمع مدنيًّا، ولا تعدّدية، ولا قابليّة حوار. فكانت تلك بيئة غير صالحة -أساسًا- لنشوء فنون كتلك. على أن تلك المعوّقات الثقافيّة تستحيل مع الزمن إلى معوّقات ذهنيّة، تسيطر على لغة الإنسان وخياله، وإن كان قد هجر بيئة إلى بيئة، وانتقل من مجتمع إلى مجتمع، فغادر قِيَمًا ثقافيّة إلى أخرى. ذلك هو سجلّنا الثقافيّ. فإذا غيّرنا ما بأنفسنا، كما يجب، فتوطّنت تلك المفاهيم - الحديثة علينا القديمة لدى غيرنا - فنشأت حركة فنّيّة سينمائيّة ومسرحيّة حقيقيّة في المملكة، تضاهي النقلة الحضاريّة التي تشهدها، سيأتي عندها النقد، ويسوغ السؤال عن : مدى مواكبته؟».
.
.
.
-3-
«لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين»
_حديث شريف_
.
كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : «إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب, فإن الشعر ديوان العرب». كما كان إذا سُئل عن شيء من القرآن أنشد شعرا. وفي هذا الأثر تتبدى العلاقة الأصيلة بين العرب والشعر منذ عصر الإسلام الأول، كإرثٍ ثقافي تاريخي للمنطقة بشكل عام. وعلى صعيد مراحل متقدمة نجد أن بعض الرؤى النقدية باتت تحول القارئ إلى منتِج للنص، وعنصر فعال يشارك في عملية صياغته، ولو بطريقة ثانوية، إلا أن سواد قراء الشعر العربي لا يحتاجون في الغالب لوساطة النقاد لتنصيبهم لهذا الدور، بما يشبه وصاية على صياغة الشعر، والتصدي لتيارات التجريب. نسأل د.عبدالله لماذا تبزغ هذه الحساسية في التعامل مع التجريب في النص الشعري؟ ليجيب : «لأن الشِّعر حامل اللغة الأوّل، في جميع الأُمم. وهو الجسد المتشكّل من روح الشَّعب. فالتجريب فيه يمسّ تلك المعطيات العضويّة في بناء الشخصيّة الإنسانيّة. ثمّ إن للشِّعر بناءً مائزًا، بخلاف النثر، الذي هو فنّ الحريّة المطلقة في البناء والتشكيل».
.
وعلى صعيدٍ مواز نجد أن العرب باتوا ينظرون لفنِّ الرواية بترقب متفائل من القادم، أما الشعر فيرمقونه بحنينٍ لماضيه القريب أو الأبعد! لنسأل د.عبدالله لماذا هذه النوستالجيا المقيمة تجاه الشعر، وكأن الآتي منه هو باتجاه الأردأ؟ يقول : «الشِّعر هو ديوان الضمير الإنساني، وسِجلّ التاريخ، ومستودع اللغة، ولاسيما في أُمّة شاعرة، كالأمّة العربيّة، الشِّعر فنّها الأول، ورصيدها الجمالي العظيم. لذلك فالقلق بشأنه لا يمكن أن يعادِل القلق بشأن فنٍّ حديث كالقِصّة والرواية. غير أن القلق على مستقبل الشِّعر لا يخصّ العرب وحدهم، لكنه قلق عالميّ، يثيره الشاعر الأمريكي (دانا جيويا) - مثلاً- من خلال كتابه «أما زال للشِّعر مَحَلّ؟». والأمر لا يتعلّق هنا بمستوى الجودة، بل بمستقبل وجود الشِّعر من حيث هو، في عصرٍ تتخطّفه الماديّات والأيديولوجيّات».
.
.
.
-4-
«خنت الشعر مرة فخانني للأبد»
_أحلام مستغانمي في حديثٍ حول توقفها عن كتابة الشعر_
.
يضمِّن د.عبدالله في كتابه (حداثة النص الشعري في المملكة العربية السعودية) رؤية مفادها أن سواد النقاد تخلوا عن مهمة السمسرة في سوق الشعر، ليجدوا في السرد ضالتهم المثلى. ومن هذا المنطلق نسأله عن حالات موازية تتمثل في نزوح الشعراء للسرد بأسماء تتخلى بالتواتر عن الشِّعر باتجاه الرواية والقصة القصيرة؟ يجيب : «عبر التاريخ الأدبي كانت الرواية شِعرًا، من خلال الملحمة، وكان الأدب كلّه ينبتُ شِعرًا، وما زال الشِّعر نموذج الأدب الأرقى. إلاّ أن الشاعر الحقيقي لا يتخلّى عن الشِّعر إلاّ بتخلّيه عن الحياة. أمّا التجريب فجادّة مشروعة، ومثرية. لقد كنتُ طرحتُ بحثًا عام 2006 بعنوان «القصـيدة - الرواية : تداخل الأجناس في بلاغيّات النصّ المعاصر»، قدّمته في المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي، البلاغة والدراسات البلاغيّة، الذي أقامته الجمعية المصريّة للنقد الأدبي، بالتعاون مع جامعة عين شمس، في القاهرة 1-5 نوفمبر 2006. وقبل ذلك بسِتّ سنوات تقريبًا كنتُ اقترحتُ هذا المصطلح، ونشرتُ قراءات حول بعض الأعمال الكتابيّة منه في السعوديّة. لقد رأيتُ في تلك البحوث أنه إذا كانت الرواية في العصر الحديث قد جاءت وريثة الملحمة الشعريّة، فإن «القصيدة - الرواية» تأتي بمثابة ارتدادٍ إلى نوع من ذلك الجنس الأدبي المهجور. غير أن (القصيدة - الرواية) تتخلّص من حِدّة الحضور ذي الوجود الكامل لكلا الجنسين - الشِّعريّ والروائيّ - كي تُنشئ نمطاً جديداً من التماهي بينهما، وإنْ كانت كفّة الشِّعريّ فيها تميل إلى الرجحان. وما قامت عليه أطروحتي لم يكن متمثّلاً في نصوص لشعراء كتبوا أعمالاً روائيّة، ولا على محض نصوص تتداخل فيها الرواية بالشِّعر، بل على نصوص لها خصائص مائزة نوعيًّا، وذلك لأن كتّابها شعراء أولاً، ولأن ما أنجزوه - تحت مصطلح رواية - ما هو إلا نصوص شِعريّة لغةً وبناء، تتشبّه للقارئ في قوالب روائيّة أوّل وهلة، فإذا ما أمعن فيها النظر، تكشّفت له عن أنها لا بروايات حقيقيّة ولا بقصائد خالصة، بل هي في منطقة وسطى بين الجنسين. وقد أنجزتُ قراءات في ثلاثة أعمال من هذا النوع، هي «سقف الكفاية»، لمحمّد حسن علوان، و»الحزام»، لأحمد أبي دهمان، و»الغيمة الرصاصيّة»، لعلي الدميني. جدير بالإشارة هنا : أن البحث في شأن الجنس الأدبي لا يزال في النقد العربي جديدًا؛ لأنه منشغل بقسمة حدّية للأدب إلى : شِعر ونثر، دون النظر في التوالج بين الدائرتين، أو بين عناصر كل دائرة. هذا إضافة إلى ذلك التعليل العام الدارج من «أن التعرّف على الأجناس الأدبيّة وتحديدها أكثر صعوبة من الفنون الأخرى أو من الأجناس الخطابيّة غير الأدبيّة»، كما يقول (جان ماري شيفير) في كتابه بعنوان «ما الجنس الأدبي؟». ويأتي مثل هذا الشكل الكتابي - الذي اقترحت له اسم : (القصيدة - الرواية) - نتاجًا حداثيًّا، تنطمس فيه الفروق بين الأجناس الأدبية، حيث بات الشِّعر يتقمّص النثر، منذ تي. إس. إليوت، أو إي كامنجز، كما يتقمّص النثر الشِّعر، كما هو الحال عند وولف، أو جويس، أو نيكوس كازانتزاكي. وحينما استعملتُ مصطلح (القصيدة - الرواية) فقد كنتُ أنفي - كما ترين - عن هذا النوع شِعريّته وروائيّته، في الوقت نفسه. لأقيم له هويّة في منزلة بين عالم الشِّعر وعالم الرواية. وعليه فإن نزوح الشعراء للسَّرد - كما جاء في السؤال - أمرٌ يبدو طبيعيًّا لأسباب تاريخيّة ومعاصرة، وإن لم يقتضِ حتميّة تخلّي الشِّعر عن نفسه».
.
.
.
-5-
«النقد هو ملَكة التقدير»
_إيمانويل كانت_
.
في مرحلة ما وجدت القصيدة العامية حظوة كبيرة، خاصة لدى الأوساط الشعبية، حتى سميت خطأً أو مفارقة بالقصيدة الشعبية. إلا أن هذا الاحتفاء لم يجد أصداءً نقدية توازيه.. نسأل د.عبدالله إذا كان جفاء سواد النخبة الثقافية لها أصّل مع جفاء النقاد؟ يجيب : «حظوة القصيدة العاميّة - للأسف - هي في مختلف المراحل الحديثة، وهي مستمرّة ومتزايدة في الأوساط الشعبيّة وبعض الأوساط غير الشعبيّة أيضًا! وأقول : «للأسف»؛ لأنها ترسّخ في المستوى الثقافي ارتدادًا إلى قِيَم شفهيّة، وقوالب اجتماعيّة تضيق بنفسها وبغيرها، تعيدنا إلى الخَلْف، بعد تفاؤلاتنا بانتهاء الأميّة العربية، ونشر التعليم، وتوحيد اللغة العربيّة، وجعلها لساننا العالمي، وإعدادها لتكون صالحة لمواكبة متطلّبات العصر والتقنية، وجامعتنا العربيّة والإسلاميّة الأكثر صمودًا في وجه التشظّي وتهديدات الغزاة. كما أن العاميّة تمثّل لغة رديفة للغتنا العربيّة، التي كان يجب أن تكون وجهنا ويدنا ولساننا إلى العالم، وأن لا ندع - تحت أي عاطفة لهجيّة - ما يبلبلها، بأي شكلٍ من الأشكال؛ فذلك سينخر البيت العربي ويقذفه في مهبّ الذوبان العولمي والضياع التاريخي. كما أن ذلك الاحتفاء طيّب الذكر لا يكتفي بشفاهيّة العاميّة كما عاشت اجتماعيًّا، بل يستغلّ الطباعة، والصحافة، والإعلام، والفضاء كلّه، لتحويلها من الشفاهية إلى الكتابيّة ثم إلى الالكترونيّة، وعبر«الإنترنت» والأقنية الفضائية والأرضيّة، في طوفان عاميّ يرسّخ أدبًا ثانيًا غير الأدب العربي، الذي كان قد توحّد منذ قيام دولة كندة في العصر الجاهلي، وقيام أول وحدة عربيّة، وشعور بالشخصيّة العربيّة الواحدة، ممّا تمخّض عن لغة أدبيّة واحدة للعرب، كان لأسواق العرب دورها في توطيدها، ثم كان للقرآن الكريم أهميته القصوى في فرضها وجعلها لغة العالمين العربي والإسلامي، بما أنها قد ارتبطت بالكتاب الكريم وبالدِّين الإسلامي. وهكذا أفضى الاحتفاء بالشِّعر العامي إلى أن يشكّل تراثًاً آخر، يستدعي منا مثل هذا السؤال اليوم، وبشكل طبيعي واعتيادي، فقد بات للعاميّة في وجداننا حقٌّ مكتسب، يتلوه حقٌّ مكتسب في ذمة العِلم والعلماء والمؤسسات العلميّة والثقافيّة! وهو ما لم يكن له محلّ قديمًا من الإعراب، سِوى هامشيًّا، على هامش الأدب الأندلسي، في نطاق زجل ابن قزمان مثلاً، إبّان الصراع بين ملوك الطوائف، أو في المشرق العربيّ في غضون أزجال شاعر كصفي الدين الحلّي، عقب حِقَبٍ من التداعيات والانهيارات، أي بعد أن أصبحت الساحة العربيّة، كما وصفها المتنبي:

مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَو سارَ فيها
سُلَيمانٌ لَسارَ بِتَرجُمانِ

بل لقد استدعت العاميّات الشعريّة اليوم ما هو أكثر في بعض الجامعات، أي الاحتفاء الأكاديميّ، وفي بعض المدارس الاحتفاء المنهجي، لتربية الأجيال على الدوران في فلك ذلك الماضي، دون حلمٍ بانعتاق. هذا الاحتفاء له خطورته اللغويّة والثقافيّة. فاللغة مُلك أمّة وحضارة، وليست مادة فنّيّة محايدة، لكلٍّ أن يلهو بها ليشكّلها كيفما شاء، والخروج على اللغة هو خروج على ثابت ضروريّ، وعلى هويّة قوميّة، والاحتفاء بذلك الخروج خروج موازٍ، ودعم مشجّع، ومؤصّل لشرخ لغويّ وثقافيّ وسياسيّ. من هنا فنحن مع سؤال الشِّعر باللهجة العامّية خارج لعبة الفنون، أو تقسيم الأوساط بين شعبيّة ونخبويّة، وجفاء واحتفاء. نحن هنا مع سؤال من نحن؟ تبعثه لغةٌ انفصاليّة، وأنماط تعبيريّة وثقافيّة، لها بنياتها المتّصلة المنفصلة، وثمة مكمن المرض فيها والفساد. وتسليمنا بهذا الواقع هو تسليم بأننا لا نرى بأسًا بأن تكون لنا لغتان أو أكثر، وأدبان أو أكثر، وعلينا إذن أن نرضى بأن نكون بأكثر من لسان، ووجه، وشعب، ووسط.. كُلّها ضعيفة، مندحرة بين الأُمم، لا تمثّلنا ولا نمثّلها. المسألة هنا أعمق من حياديّة السؤال عن : قصيدة، أو التعاطف مع نمطٍ تعبيري، أو التعصّب للهجة، أو التساؤل البريء حول ناقد. وعليه، يمكن القول إن هناك أسبابًا مبدئيّة لابتعاد الناقد عن دراسة الأدب العامّي من جهة، وأسبابًا تخصّصية من جهة أخرى. نعم، إذا كانت الدراسة بهدف الإفادة من ذلك الشِّعر في بحث لغويّ يعود بالنفع على العربيّة، أو في دراسة تاريخيّة أو بيئيّة لها مردودها الحضاريّ والاجتماعي والعلميّ، فتلك أمورٌ مهمة ومفيدة، بل واجبة. أمّا إنْ كان تأسيسًا لاستمرارنا على أدبٍ نشأ أصلاً في عصور جهلٍ وفُرقةٍ وانحدار لغويّ وانحطاطٍ ثقافيّ -لا يشرّفنا بقاؤه فضلاً عن خدمته وإطالة أَمَده - ففي ذلك خيانة ثقافيّة ووطنيّة جذريّة، ونكوص عن الدور الباني للأدب والنقد والعِلم. ثم في سبيل ماذا؟ في سبيل أدبٍ لا جديد فيه ولا إضافة تُذكر، حتى على المستوى الفنّي، سوى اجترار ما عرفته القصيدة العربيّة منذ العصر الجاهلي وعبر ألوان مسيرتها الطويلة الطويلة؟! فهل المكاسب تعادل الخسائر؟ إن النقد ليس بغاية لذاته، بل هو وسيلة علميّة للتقويم والارتقاء والنهوض، لا للمجاراة، والتنازلات، والبثّ الدعائي لعملٍ أدبيّ أو اتجاهٍ معيّن. على أن عدم النقد هو في حدّ ذاته موقف نقديّ».