وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

الاثنين، جمادى الآخرة ١٠، ١٤٢٨

ملف// التجاهل يغيّب نازك الملائكة قبل الموت!

الأثنين 1428-06-10هـ
2007-06-25م

عروس دجلة تموت على شاطئ النيل
التجاهل يغيّب نازك الملائكة قبل الموت!



منال العويبيل - الرياض
«توفيت يوم الأربعاء بمستشفى في العاصمة المصرية الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة عن 84 عامًا إثر هبوط حاد في الدورة الدموية. بعد معاناة من أمراض الشيخوخة تدهورت على إثره صحتها. وقد شُيعت جنازتها ظهر الخميس، وتم دفنها في مقبرة خاصة بعائلتها غربي القاهرة».
هذا الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء العربية عن وفاة إحدى أعظم رائدات الشعر العربي الحديث، والتي تلاطمت بها الدنيا بين بغداد، الولايات المتحدة، الكويت، حتى وفاتها في عاصمة مصر. الخبر الذي أسقط عبارة مفادها: أن العظماء لا يقتلهم المرض بقدر ما يفعل بهم التجاهل!.
«ذهبتْ ولم يَشحَبْ لها خدٌّ
ولم ترجُفْ شفاهُ
لم تَسْمع الأبوابُ قصةَ موتها تُرْوَى وتُرْوَى
لم تَرتَفِعْ أستار نافذةٍ تسيلُ أسًى وشجوَ
التتابعَ التابوت بالتحديقِ حتى لا تراهُ
إلا بقيّةَ هيكلٍ في الدربِ تُرْعِشُه الذِّكَرْ
نبأ تعثـّر في الدروب فلم يجدْ مأوًى صداهُ
فأوَى إلى النسيانِ في بعضِ الحُفَرْ
يرثي كآبَته القَمَرْ»*1
أما قبل
كانت الشاعرة العراقية نازك الملائكة تمرُّ بأزمة صحية شديدة، وتفاقم وضعها مؤخراً لاحتياجها المتواصل إلى العلاج المكلِّف والطويل، فبادر إثر ذلك عدد من المثقفين العراقيين في وقت سابق من الشهر الماضي إلى مطالبة حكومتهم بـالمبادرة بعلاج الشاعرة، وقد ذكروا في بيان أصدروه في القاهرة: «إن الأوضاع المأساوية التي يمر بها العراق يجب ألا تُنسي الحكومة العراقية مسؤولياتها تجاه الملائكة، لقد كافحت الملائكة معاناتها وآلامها خلال هذه الفترة بعفة ونبل جديرين باسمها وباسم الأدب العراقي وباسم العراق، وحان الوقت أن يتحمل الوطن ممثلاً بحكومته مسؤوليته الأخلاقية بتبني علاج ابنة العراق البارّة نازك الملائكة ورعايتها الرعاية التي تستحقها كواحدة من أعظم أدباء العراق الحديث».
وقد وقّع البيان كلّ من: السياسي والوزير السابق أحمد الحبوبي، وسكرتير عام منظمة التضامن الأفرو-آسيوي نوري عبدالرازق، والسياسي فيصل فكري، والكاتب صلاح النصراوي، والباحث الأكاديمي سيف النصراوي.
«والريحُ تسأل من أنا
أنا روحُها الحيران أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان
نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ
نبقى نمرُّ ولا بقاءْ
فإذا بلغنا المُنْحَنى
خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ
فإِذا فضاءْ!»*2
وقد نتج عن ذلك البيان مبادرة رسمية تمثلت بتوجيه الرئيس العراقي جلال طالباني، ورئيس وزرائه نوري المالكي، بمتابعة الحالة الصحية للشاعرة. حيث دعا طالباني المسئولين العراقيين في القاهرة إلى إجراء اتصالات عاجلة للاطمئنان على صحة الشاعرة، مؤكداً أنها صرح شامخ في الثقافة العراقية والعربية والعالمية، بحسب تقرير نشرته صحيفة «الصباح» العراقية السبت 8/6/2007م.
موتها السابق !
اختارت الشاعرة نازك الملائكة بمعية عائلتها الانتقال لمدينة القاهرة في منتصف التسعينات الميلادية بعد قضائها فترة طويلة من التدريس في جامعة البصرة والكويت (خاصة بعد تدهور العلاقات السياسية والمعيشية إثر الغزو العراقي للكويت، وظروف الحصار الدولي الذي فُرض على العراق)، فولجت الشاعرة مصر بهدوءٍ نأت فيه عن الحياة العامة والإعلام، خاصة بعدما شقّت عليها ظروفها الصحية المتأزمة مزاولة النشاطات المتوقعة من رائدة بقامتها الشعرية والثقافية.
«أطفئ الشمعةَ فالرُّوحانِ في ليلٍ كثيفِ
يسقطُ النورُ على وجهينِ في لون الخريف
أو لا تُبْصرُ? عينانا ذبـولٌ وبـرودٌ
أوَلا تسمعُ? قلبانا انطفاءٌ وخُمـودُ
صمتنا أصداءُ إنذارٍ مخيفِ
ساخرٌ من أننا سوفَ نعودُغُربَاءْ»*3
إلا أنّ القشّة التي قصمت ظهر البعير أتت إثر وفاة زوجها «عبدالهادي محبوبة» العام 2001م، ورثته بقصيدة حرّى حملت عنوان (أنا وحدي) كانت آخر قصائدها المنشورة، حيث دخلت الشاعرة في حالة من الاكتئاب والعزلة شبه التامة، مما حدا بترديد بعض الصحف أخبارا تُفيد عن وفاتها رغم أنّها ما زالت على قيد الحياة.
جيناتها الشعرية
بينما تتوارث الأسر عادة بعض الملامح أو الطباع توارثت أسرة «الملائكة» الشعرَ، حيث تفتحت عينا نازك في كنف عائلة أدبية معروفة، حيث كان أبوها «صادق الملائكة» شاعراً كبيراً وخلّفَ مؤلفات كان أهمها موسوعة (دائرة معارف الناس) في عشرين مجلداً، وكذلك أمها «سلمى عبد الرزاق» التي كانت شاعرة معروفة في الأوساط العراقية، وأصدرت ديوان شعر في الثلاثينيات، أسمته «أنشودة المجد» ، إلا أنها آثرت توقيعه بكنيتها «أم نزار الملائكة» ، نسبةً للابن الأكبر الذي بالمناسبة كانت له صولاته الشعرية، إلى أن استقر به المطاف في مدينة لندن.
وعلى صعيد الأقارب أيضاً نجد أنّ خاليها «جميل» و»عبدالصاحب» كذلك من الشعراء المعروفين في المشهد الشعري العراقي. وصولاً بقريبتها «ريم قيس كبه» التي بثت خبر وفاتها لوكالة رويتر العالمية.بيتٌ تسكنُه الملائكةكثيراً ما يستغرب الذي يتعرَّف على اسم الشاعرة «نازك الملائكة» تركيب الاسم الذي يوحي بكونه مستعاراً لأغراض شعرية، خاصة ممن لا يعرف خلفية عائلتها الشعرية.
وحقيقة الأمر أنّ لقب «الملائكة» أطلقه بعض الجيران على عائلة الشاعرة بسبب ما كان يسود البيت من هدوء، حيث يتناقل من يعرفهم طرفة مفادها: «أن لديهم بيتاً تسكنه الملائكة» ، ثم شاع اللقب الذي حملته الأجيال التالية من العائلة حتى الآن.من غضّ العود إلى اشتداد الشعرلقد وفَّر الوضع الأسري الميسور للشاعرة مناخاً خلاقاً، كما تهيأت لها مناهل الثقافة من أوسع أبوابه، فقضت سنوات صباها مع أسرتها الأدبية الممتدة، وتفتحت لديها الموهبة مبكراً متجهة منذ صغرها إلى دراسة الأدب القديم والنهل منه، واستفاضت في دراسة النحو وعيون التراث العربي اللغوي والأدبي، كما كانت شديدة النهم للقراءة، حيث تحكي عن نفسها أنها كانت تشعر بشيء من الرهبة إذا لم تقرأ ثماني ساعات يوميا.
بعد سنوات التعليم الإلزامي التحقت الشاعرة بدار المعلمين العالية، وتخرجت منها سنة 1944م، كما درست الموسيقى بمعهد الفنون الجميلة، وتعلمت العزف على آلة العود عام 1949م.ومن ثمَّ توجهت للولايات المتحدة التي نالت فيها درجة الماجستير في الأدب المقارن عام 1950م من جامعة وسكنسن، ومن ثم حرصت على إجادة اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية، ومن ثم عادت عام 1954 مرة أخرى للولايات المتحدة لدراسة الدكتوراه ضمن البعثة التي أوفدتها الجامعة العراقية، فتسنى لها الاطلاع على الأدب الفرنسي والصيني والألماني والهندي.
وبعد عودتها للعراق عملت بكلية التربية ببغداد سنة 1957م، وفي العام التالي رحبت الشاعرة عبر قصائدها بثورة رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم عام 1958م، لكنها ما لبثت أن اضطرت لترك العراق، وقضت في بيروت عاماً كاملاً؛ خوفاً من تفشي العنف الثوري في تلك المرحلة، وفيما بعد وصفت قاسم بالرجل الذي «استهوته شهوة الحكم» .
بعد ذلك انتقلت إلى جامعة البصرة، وتزوجت في عام 1964م من الأستاذ الدكتور «عبد الهادي محبوبة» رئيس جامعة البصرة. ومن ثم رحلت بمعيته إلى الكويت، وعملا بالتدريس في جامعة الكويت، وإثر إصابتها بمرض عضال منحتها الجامعة عام 1985م إجازة تفرغ للعلاج، ثم عادت إلى العراق، ومنها إلى القاهرة لتكمل علاجها الطبي نظراً لنقص الأدوية في العراق بسبب الحصار الأميركي، واتخذت نازك وزوجها وابنها الوحيد الدكتور «براق» القاهرة مكاناً لاستقرارهم.
ريادة شعرية ومآرب أُخر
تعد نازك من أبرز رواد الشعر العربي الحديث الذين تمردوا على الشعر العمودي التقليدي، وجددوا في شكل القصيدة بالاتجاه لشعر التفعيلة متخلين عن القافية. تقول نازك في أحد مؤلفاتها: «كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947م، ومن العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكادت، بسبب تطرف الذين استجابوا لها، تجرف أساليب شعرنا العربي الأخرى جميعاً، وكانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المعنونة «الكوليرا» وهي من الوزن المتدارك ( الخبب).»*4
وقد حاولت نازك بشكلٍ أساسي دحضَ ما يُنْسَب إلى الشاعر بدر شاكر السياب من أمر ريادة الشعر الحُر، انطلاقاً من أنه نشر قصيدة في ديوانه الأول (أزهار ذابلة) الذي صدر قبل ديوان نازك (شظايا ورماد) الذي يتضمن قصيدة الكوليرا بسنتين كاملتين. وفي ردّها على «ادّعاءات» السيّاب تقول نازك في رسالة بعثت بها إلى الأديب الأردني عيسى الناعوري مؤسس مجلة (القلم الجديد) بتاريخ 16/11/1953م: «ولكن الزميل (تقصد السيّاب) سامحه الله على كل حال، ينسى أن القصائد كثيراً ما تُنشَر في الصحف قبل جمعها في دواوين مطبوعة. وهو لا يعلم على الإطلاق أن قصيدتي الحرة الوزن (الكوليرا) المنشورة في (شظايا ورماد) قد نُشرت في عدد كانون الأول 1947م في بيروت في مجلة (العروبة)، وأنني كنت قبل ذلك بشهرين قد أرسلتها إلى أديب صديق في لبنان أستطلع رأيه في هذا الأسلوب الجديد الذي وُفّقت إليه، وأنا أحاول _في جهدٍ نفسيٍّ منفعل_ التعبيرَ عن إحساسي تجاه الآلاف من الموتى الذين قضى عليهم داء الكوليرا الذي تفشّى في مصر آنذاك».
وتضيف: «وإذا علمتَ أيها الأخ، أن ديوان بدر شاكر السياب (أزهار ذابلة) قد صدر في النصف الثاني من كانون الأول 1947م، وأنه أول أثر مطبوع له، أدركتَ ماذا عليك أن تسمّي دعواه هذه التي ليس في تاريخي الأدبي كلّه منذ سنة 1941م ما يؤيد إمكان حدوثها»*5
تقول في مطلع نص الكوليرا:
« سكَن الليلُ أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ في عُمْق الظلمةِ,
تحتَ الصمتِ,
على الأمواتْ صَرخَاتٌ تعلو,
تضطربُ حزنٌ يتدفقُ,
يلتهبُ يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ »*6
وهو بالمناسبة النص الوحيد الذي تضمّنته مقررات النصوص والأدب في المراحل الإلزامية محلياً في تنويهٍ عن ريادة الشاعرة للشعر الحُر الحديث.
يقول الشاعر حامد بن عقيل في رثائها الموشوم بكوليراها: «نازك روحٌ منعزلةٌ.. الشعراء هم العزلة، والقصائد هي أنفاسهم التي تسير بين الناس. ستبقى ما بقي الشِعر، ليس لأنها شاعرة مُجيدة فحسب، ولكن لأن لها بصمتها. ستترك كوليرا متمددة في جزء من الجسد الشعري العربي.. تركت من قبلُ كوليرا تهدي وعيها إلى الغد في الصياغة والأسلوب وفي المعنى».
وعلى صعيد المؤلفات الشعرية صدر للشاعرة ديوانها الأول (عاشقة الليل) عام 1947م، وديوان (شظايا ورماد) 1949م، و(قرارة الموجة) 1957م، و(شجرة القمر) 1968م، (مأساة الحياة وأغنية للإنسان) 1977م، (للصلاة والثورة صدر) 1978م، (يغير ألوانه البحر)، إلى جانب مجلَّدي أعمالها الكاملة.وإلى جانب إبداعها الشعري كان لنازك مساجلات نقدية، وفي نقد النقد، وعلم الاجتماع، منها: (قضايا الشعر المعاصر)، و(الأدب والغزو الفكري)، و(محاضرات في شعر علي محمود طه)، و(سيكولوجيا الشعر)، و(التجزيئية في المجتمع العربي)، و(الصومعة والشرفة الحمراء). وقد حصلت «نازك الملائكة» على عدد من الجوائز الأدبية، منها: جائزة الإبداع العراقي 1992م، وجائزة البابطين للشعر 1996م. كما أقامت دار الأوبرا المصرية يوم 26 مايو 1999م احتفالاً لتكريمها بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة الشعر الحر في الوطن العربي، وشارك في الاحتفال الذي لم تشهده نازك الملائكة لظروفها الصحية شعراء ونقاد مصريون وعرب بارزون، إضافة إلى زوجها د.عبدالهادي محبوبة.
نازك الملائكة درامياً
كان أن صرّح المؤلف العراقي ناظم السعود نهاية العام 2004م عبر مجلة (الصوت الآخر) العراقية عن إطلاق مسلسل درامي هو الأول من نوعه عن حياة رائدة الشعر العربي المعاصر نازك الملائكة، كمشروع درامي تم تأجيله لأربعة أعوام سبقت الإعلان، ويهدف إلى إضاءة حياة وسيرة الشاعرة الرائدة، ونضالها العصيب في الحياة والأدب والمرض، عبر تقديم محاولة درامية لاقتباس محطات سريعة من حياة الملائكة، كتب منها المؤلف جزأين بستين حلقة إذاعية، وكان من المفترض أن يُكتب جزء ثالثا، إلا أن الشركة المنتجة (سميراميس) اقترحت إكمال المسلسل لاحقاً، ثم مر الوقت والمسلسل مركون على ذمة التأجيلات والتسويف، رغم الإشادة الكبيرة من داخل الشركة وخارجها.
من ثم حدثت مبادرات هدفت للتعجيل بالعمل الذي لا يُعلم ما انتهى إليه حتى الآن!.
مَخْرَج
إن رحيل نازك يفتح باباً لطالما توارت تساؤلاته عن مصائر المبدعين العرب الذين بات يواريهم التجاهل وتحويل المسئوليات بين وزارات الثقافة، والنقابات، واتحادات الكتّاب، وما إلى ذلك من جهات قبل الكفن!.. فإذا كانت نهاية العظماء بهذا الشكل، أي حال ينتهي إليه ما دونهم؟
«انظروا كلّ ما على الأرض يبكي فأفيقوا يا معشر الحالمينا»*7
(نسخة _مع الأسى_ للمشهد الثقافي العربي ومؤسساته الرسمية والأهلية)
_____________
*1 من نص للشاعرة (مرثية امرأة)
*2 من نص (أنا)
*3 من نص (غرباء)
*4 (قضايا الشعر المعاصر)
*5 (عيسى الناعوري وأعلام عصره، رسائل مخطوطة لم تُنشر 1948–1985)، من جمع وتوثيق تيسير النجار
*6 مطلع نص (الكوليرا)
*7 من نص (البحث عن السعادة)