وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

الاثنين، جمادى الأولى ٠٤، ١٤٢٨

تحقيق// هل يقبل نقادنا أن يكونوا منقودين؟

الأثنين 1428-05-04هـ
2007-05-21م

هل يقبل نقادنا أن يكونوا منقودين؟
- عيد الناصر -
- عبدالواحد اليحيائي -

استطلاع - منال العويبيل
بعد موجة انشغال الاتجاهات النقدية بمرجعيات الإبداع، وأبعاده التاريخية، أو الاجتماعية، أو النفسية، وغيرها.. بعيداً عن كُنه الإبداع نفسه، تتحول صورة هذا المأزق لمنحى يؤكد هذا الانشغال تتبدى أزمته مؤخراً بتضخّم الذات لدى النقّاد، وتكريس نمط من النخبوية في التحليل، أو التنقّل بين محطتَيِّ الإشادة المبالغ فيها، أو الهجوم العشوائي.
يرى الناقد «د. أيمن بكر» أنّ من الأنماط الشائعة للنخبة العربية المبدعة، نمط يوحّد بين إنتاجه الإبداعي وذاته، وبين نصه وشخصه، كنمط يقول لك في كل سلوكياته: «أنا نصيّ»، متماهياً مع النص، ويكتسب توازناته الأساسية عبر هذا التماهي، بحالٍ تنطبق على مختلف أنواع المبدعين بمن فيهم نقاد الأدب؛ فكثيراً ما يتماهى الناقد مع مقولات تنتمي لاتجاه نقدي معين، ويصبح دفاعه عن ذاته/ مقولاته النقدية هو شاغله الأكبر، وبالتالي تتضاءل القدرة على مراجعة الذات وتفحّص محتويات الوعي، خاصةً عندما يكتسب لقب «الناقد الكبير».
نتساءل في هذا المقام عن إمكانية تحييد هذه الحالة لدى النقاد، لنصل إلى حضور الشخصية الناقدة منقودة أيضاً في سبيل تحرير الخطاب من أي انحيازات. ويؤكد الناقد «عيد الناصر» أنّ كلّ من يكتب نصاً يكتب جزءاً من ذاته بمستوى أو بآخر. والناقد هو متلقي وقارئ مثله مثل غيره من القرّاء ما عدا كونه من الناحية المعرفية في حالة أفضل، وما عدا ذلك فهو مثله مثل القراء الآخرين، بل إنَّ هناك من القرّاء النوعيين من لا يمارسون الكتابة، ولكنهم يمتلكون حساً نقدياً جميلاً جدا. وحول إذا ما كان الناقد يتماهى مع ما يكتب إلى درجة الدفاع عن مقولاته حدّ اعتبار الأمر دفاعا عن ذاته، يقول: نعم، هذه حالة موجودة، وهي جزء من التركيبة النفسية والاجتماعية للإنسان، وهي مرتبطة إلى حدٍّ كبير بوعي هذا الكاتب وسجاياه الإنسانية والأخلاقية، فالكاتب المتواضع الواثق من نفسه لن يكون بحاجة إلى أن يعتبر كل آرائه في الفن والحياة كاملة لا يأتيها الضعف والنقصان من أية جهة، وهذا كذلك ينطبق على كل مبدع سواءً كان شاعراً أو قاصاً ..الخ، ففي اللحظة الذي يتصوّر هذا الإنسان نفسه بأنه وصل إلى تلك اللحظة فهو في الحقيقة بدأ في السقوط السريع من مكانته التي وصل إليها. نُضْج الإنسان وتجربته تكشف أمامه الكثير من الأشياء التي تحوّله ناقداً لعمله حال نشر هذا العمل، بمعنى أنه يتحول إلى قارئ آخر لنصه هو نفسه.
وحول إمكانية تحييد هذه الحالة لدى النقاد، لنصل إلى حضور الشخصية الناقدة منقودة أيضاً، يتساءل «الناصر» عن جدوى ذلك، فيقول: سؤالي هو هل نريد هذا التحييد؟ ولماذا؟ ولماذا نشغل بالنا بأن نحيّد هذا الناقد أو ذاك؟ .. إنّ كل مبدع عليه أن يمارس دوره في العملية الإبداعية ليكتسب خبرة وتجربة ومعرفه تساعده على النضج، ومن يدري فربما تكون الساحة بحاجة إلى هذه العيّنة من المبدعين لإعطائها بعض الإثارة والحيوية بين حين وآخر. لا أعتقد بأن الانشغال بهذه النقطة مهم إلى تلك الدرجة التي تستدعي أن تشغل الساحة نفسها به، على الساحة الثقافية أن تفتح المجال لأصحاب المواهب الجديدة من الشباب والفتيات، وضخّ دماء جديدة فيها، فهذا أنفع وأصلح لنا بدلاً من الركض خلف سراب موهوم يحاول تغيير موقف هذا أو ذاك من الكتّاب والنقاد والمثقفين.. القارئ إنسان ذكي وهو قادر على الفرز بين الجيد والخبيث، وعلينا أن نثق بأنّ التجربة بحاجة إلى كل ضروب الحياة من الكتّاب والمبدعين.ورداً على طلب اقتراح بعض الأسماء التي قد تتبنى تصحيح الوضع النقدي يجيب الناصر: أتحفظ بشكل كبير على زج الأسماء، فكل متابع للساحة يستطيع أن يرصد الأسماء بلا عناء يذكر.
وإذا كان ولابد من ذكر أية تجربه نقدية، فسيكون ضمن دراسة لتجربة هذه الشخصية، وليس عبر تصنيف سريع لهذا الاسم أو ذاك.ويشير الكاتب «عبدالواحد اليحيائي» إلى أن ذلك إشكالية يُردُّ عليها بأنّ النقد إبداع آخر مواز في بعض الأحيان للإبداع الأصلي إن لم يتفوق عليه. إلا أنه ما يلبث أن يتساءل: هل كل نقّادنا يقدّمون هذه النوعية من النقد؟ الغالب على نقادنا أنهم لا يكتبون إبداعًا ليتماهوا معه إيجابًا أو سلبًا. إذن، لنعد للمبدعين الذين يمارسون الإبداع عبر كتابة الشعر، أو القصة، أو الراوية، أو لنقل المبدع حين ينتقد عمل زميله المبدع، وحين يعتقد أو يتوهم أن عمله هو ( قصيدته، روايته، ...الخ ) مكتملاً نقديًا، وبالتالي يقوم بالدفاع عن ذاته/ مقولاته النقدية التي مثّلها بكتابته، وهذا النقد في غالبه انطباعي، وهو في كثير من الأحيان متعجّل. وهنا تطل إشكالية أخرى: لو لم يدافع عن كتابته حسب قوانينه النقدية هل يكون مخلصًا مع ذاته حين قدم عملاً لا يعتقد هو أنه استوفى مقاييس الكتابة كما يراها ناقدًا؟ بالتأكيد لن يكون مخلصًا لعمله الإبداعي، أو نقده الذي يوجّهه لذاته. في هذه الحالة أرى أنّ تحرير الخطاب من الانحياز صعب، وغير واقعي، ومخالف للطبيعة الإنسانية التي تحاول أن تتبنى الكمال فيما تبدعه، لكنَّ المطلوب هو محاولة تفهّم الناقد الآخر، والتجاوب الإيجابي مع ملاحظاته إن كانت صائبة ومن شأنها أن ترتقي بالإبداع المقدم أو بمحاولة الوصول إلى حقيقة أو قاعدة نقدية تؤصل لفكر جديد قادم بين المبدع والناقد، سواء أكان النقد لإبداع الناقد ذاته أو لإبداع يقدمه مبدع آخر.
وعلى مستوى ممارسي النصّ تتفق القاصّة «مليحة الشهاب» مع «اليحيائي» في أنّ العملية النقدية في بُعدها الثقافي هي فعل موازي للحظة الإبداعية للنصّ، والحاضن له، حيث يتجاوز إلى إعادة التخليق، وبث الروح.بينما تستطرد من ذلك إلى أنه في اللحظة التي نبحث فيها عن كاتب مبدع ومتجاوز نتطلع إلى ظهور الناقد الموضوعي، وهو ذاك يمارس النقد الذاتي قبل أن يجترحه على النص الإبداعي، ونستدل عليه من خلال النبرة المتجددة في كتاباته، فهو لا يكرر كلماته، ولا ينام مطمئنًا على ما يقدمه من آراء، فهو أشبه بالأرض المفتوحة والخصبة؛ تستقبل كل أنواع الشتلات، ولكن لا تنمو فيها، ولا تترعرع إلا الشتلة التي تحمل كينونة العطاء والنمو.وبذلك فالعملية النقدية في المقام الأول اجتراح إبداعي، وكأي حالة إبداعية لتستمر ولا يخبو بريقها تتطلب الانفتاح، وعدم الركون على المكتسَب من المعرفة أو المسلَّمات، الذي يوصل الناقد إلى حالة يمكن تسميتها بالركود الذهني، والإقامة الدائمة على حدود مكتسباته المعرفية حتى يغدو حارسًا لها، ومطبّقًا مقاساتها على كل نص، فيظهر متكررًا في تقييماته وأحكامه، مستمرئًا الاجترار الذي ينتهي به إلى التكلس.
وتشدد الشهاب في رؤيتها على ضرورات الخطاب النقدي، فتقول: عليه أن يكون حداثيًا بالمفهوم أو البعد العميق لكلمة حداثة بما هي روح الحياة في استمراريتها.. وما حالة الانغلاق التي يعيشها العديد من النقاد، حيث يظهر كالبركة الراكدة على مياهها، مستكين على ما لديه من أدوات دون أن يمنح نفسه فرصة للتوقف والعمل على شحذ ما يملكه من أدوات نقدية.. فالناقد المتجدد يحتاج إلى ما يحتاجه المبدع بممارسة لعبة الظهور والاختفاء، الاشتعال ثم الانعزال. وبما أنه لكل نص فرادته وروحه الخاصة التي تمنحه خصوصيته وتشكله، فعلى كل مقاربة نقديّة أن تختلف باختلاف النص، بما هي نتاج التفاعل بين النص والناقد، بمعنى أن يأتي الناقد متحررًا من كل ما يملكه من نظريات، أو العمل على تحييدها، فلا يقيس النص على ما توصل إليه من نظريات نقدية، حيث النص الإبداعي يفترض منه الحالة التجاوزية.. بل عليه أن يفتح أبوابه للنص، ويمنحه المساحات لينطلق إلى حد العبث بداخله، وترك بصماته وآثاره على جدران الذات المتلقية، بعدها يأتي الناقد ليقرأ تلك الآثار، ويعمل على فك شفرتها، ويعمل على خلق حالة سجالية بين رؤاه النظرية وما أحدثه النص.. فكما نطلب من النص الإبداعي أن يكون ذات كينونة متجددة، فالتفاعل النقدي عليه أن لا يكون أقل من هذا التجدد والتجاوز، بهذا المعنى تغدو كلمة حداثة شرطًا لأي مقاربة نقدية تتعالق مع التصعيد الجمالي الذي ينتجه النص، ووضعه على طاولة التشريح، واختباره ضمن صيرورة الحركة الداخلية والخارجية للنص.
القاصّة «زهراء موسى» تؤكد أن تساؤلاتنا حاصلة فعلياً في ظل وجود نقد النقد، والشواهد حاضرة لمن يتابع المشهد كما تقول. وتضيف: نحن في زمن زعزعة الثوابت، ولا أحد فوق النقد، أمّا القائمون بمراقبة الناقد ومحاسبته فهم المثقّفون مبدعون أو غيرهم، الأهمّ برأيي: هل هم مؤهَّلون لهذا الدور؟ فتجيب على تساؤلها: بعضهم مؤهّل، وليسوا قلّة، لكن كثيرين لا تعدو آراؤهم وجهات النظر الشخصية، مثل كاتب يفرد موضوعًا يشكو فيه من إطالة الناقد الفلاني، بأسلوب عدواني، ولا ينمّ عن احترام، بينما أجدني على استعداد لقراءة مطوّلاته دون ملل؛ لأني أجدها ممتعة ومفيدة.
إن من مصلحة الناقد _ كما تردف _ أن يكون في مجتمع يتلقّى أطروحاته بوعي وبصيرة ومسؤولية، هذا يزيده حرصًا، ويقيه من الشعور بالتضخّم. وأتمنّى من الناقد الحقيقيّ ألا تهزّه التحاملات من الكتّاب لأنه قال رأيه بصدق وأمانة. فالإنسان عادةً ما يقاوم المصلحون، خصوصًا المبدع؛ لأنه عنيد بطبعه.