وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

الأربعاء، ذو الحجة ٠٦، ١٤٢٧

في قراءة لإصدارها الأخير (جاهلية) .. ليلى الجهني: (2من2)0

الأربعاء 1427-12-07هـ
2006-12-27م

في قراءة لإصدارها الأخير (جاهلية) .. ليلى الجهني: (2من2)0
على المرأة أن تتعلم النظر إلى الرجل كإنسان لا ذكر مقدس



منال العويبيل - الرياض
استكمالاً لعرضنا السابق لرواية ليلى الجهني (جاهلية) الصادرة مؤخراً عن دار الآداب، نستكمل هنا عددا من المحاور التي نتطرق فيها إلى ما طرحته ثنايا الرواية، وبمعية رؤى ليلى الجهني حول تساؤلاتٍ قد تعبر قارئ النص.


(4)

«الحياة عادة لا تسمح لنا إلا باختيارٍ بين أسوأ الحلول.. أما الأفضل فنصنعه بأنفسنا»

سيز كولتن



يرد في أحد مقاطع (جاهلية) ص66: « ستكشف علاقتها بمالك وعورة الحياة تحت سماء بلادها، وستمزق النسيج الحريري الزاهي الذي تلتفع به تحت تلك الحياة الآسنة، ولن يغفر لها أحد


«الين واليان» كما هو معروف نصفَيّ الطاقة بلونها الأبيض والأسود في الثقافة الطاويّة، وبمعزل عن رمزهما للخير منها والشر، نأتي لحالةٍ هنا بين عباءات النساء السود، وثياب الرجال البيض بانشطارٍ يباعد عالميهما، فلا يتوحدان كطاقة فاعلة في الغالب.. حتى إننا نجد في الفترة الأخيرة أن تنمية الوعي بالحقوق والواجبات سيستجلب معه مرحلة من الندِّية في الوضع، الأمر الذي سيعزز فصل العالمين. في رأي ليلى عند سؤالها ما الذي يوحدنا/ سيوحدنا إذن، تقول: « أن يعاد تأهيل مفهوم كل شطر عن نفسه وعن الشطر الآخر، أن يتعلم الرجل أن ينظر إلى المرأة فيرى إنساناً لا مجرد شيء أو جسد؛ وأن تتعلم المرأة أن تنظر إلى الرجل فترى إنساناً لا ذكراً مقدساً عليها أن تغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر


لقد تردد في أكثر من موضع في الرواية التأكيد على هلامية الخطوط الفاصلة في المجتمع بين المسموح من عدمه، هذه الهلامية التي لا تعني فتح المجال بقدر ما تتطلب الإذعان المفروغ منه حدَّ ألا يُتكلم فيه، ولأنه أصلاً غير مرئيٍّ بمنطق. نسأل ليلى عن هذه الحدود الواهية للمحظورات هنا، وتحديداً عمن سيكون له تصدُّر شقها: عناد النساء، أم جبروت الرجال؟ فتجيب بالقطع: « على النساء أن يفعلن ذلك. أي تغيير يأتي من قِبَل الرجال، لن يكون له الأثر العميق الذي يخلفه ذلك الذي تفرضه النساء، لأن من ينشئ الرجل في أول حياته، ويضبط إيقاع علاقته بها وبجنسها امرأة قبل أن تكون أماً. والمرأة المدركة لهشاشة المحظورات التي تخنق الفطرة السليمة - أحياناً - ستكون قادرة على أن تغرس هذا في من حولها، وتُنصِف نفسها، عِوَض أن تنتظر جبروت رجل كي ينصفها. »



(5)

»لا يصلح السِلم ما أفسدته الحروب»


يجد القارئ في بداية كل فصلٍ من الرواية ما يشبه روزنامةً بمسميات غابرة اندثرت للعرب العاربة من بني قحطان للأيام والشهور، إلا أنَّها حُددت فيها بحوادث سياسية زامنت ما قبل/ حتى سقوط بغداد على يد الاحتلال الأمريكي للعراق، ورغم أن الشخصيات لا تتعرض للحرب في أي من الحوارات خلا بعض الأفكار العابرة في ديالوغ داخلي للبطلة. لا يُستشعر نشازٌ في تواجد هذه المقاطع التي تُشبه فكرة الخبر العاجل في الفضائيات الإخبارية، ليأتي حضور خيبات هزائمنا فيها موائماً لما تتصادم معه الشخصيات من عُقد.

وتأتي التوطئة الأولى حول انتظار الإدارة الأمريكية لإعلان الرئيس بوش عن انتهاك العراق لقرارات الأمم المتحدة المطالبة بكشف أسلحة الدمار الشامل، يردفها ترقّب مهول من هاشم لما اقترفته يداه بحق مالك. لتأتي الأخيرة لحالة من الفوضى المفجعة إثر سقوط بغداد، في ذات الوقت التي تميد رواسي السماء لتتساقط كسفاً على رأس (لين).

سألنا ليلى: الخيبات السياسية صَدْرَ كل فصل من الرواية تبدو كتمهيدٍ لنُدَبٍ على مستوى الإنسان في ثنايا الفصل.. فإذا كان النفط في العقود الثلاثة الماضية دلل الناس حتى أفسدهم.. فهل خذلان سياسة اليوم تكفلت بإفسادنا؟ لتجيب:» الحياة في هذه المنطقة تحديداً تتكئ على فسادٍ قديم ينخر منذ قرون، سياسة اليوم إذن لم تفسد أحداً أو شيئاً، هي فاسدة من أساسها، وكل ما فعلته هي والنفط أنهما سَرّعا وتيرة الفساد القديم، وجعلا الوضع شيئاً أشبه ما يكون باعتياد الأنف على الرائحة المزعجة لطول البقاء بقربها.»



(6)

«هنيئاً للمسمار له خشب يضمه ويحميه»

الماغوط


«عالم لا شيء فيه سوى الكتب المنتظمة فوق الأرفف، أو المكدسة قرب سريرها. عالم من الورق، ظنَّت لين دائماً أنَّها لن تفهم سرَّ ارتباطها به. عالم يليق برجل لا بامرأة. عندما يضيِّع رجل عمره في الكتب فلن يلومه أحد. في اللحظة التي يستعيد فيها عقله - لأن الكتب كالمخدرات تسلب الإنسان عقله - ستكون الحياة بانتظاره كي يصنعها؛ ان الرجل يصنع حياته، أما المرأة فتنتظرها.»


(جاهلية ، ص114)



محاولة النساء صنع فرق في مجتمعاتهنَّ كثيراً ما يكون حمّال أوجه، كذلك هو الأمر في صنع اختلاف في شخص المرأة بما يعكسه على ذاتها ومحيطها الضيق فالأوسع، هذا في حال سلَّمنا أنَّ ثقافة مجتمعنا لم تستطع الوصول لمرحلة واعية لتقبل المختلف أو (الآخر) والمعني هنا المغاير عما اعتيد عليه، فكيف المرأة.يمكن توضيح فكرة جلية في النص من أن كثيرا من إشكالات الحبكة عند تتبع خيوطها تؤدي للبطلة لين واختلافها، ورغبتها بحياة موائمة لهذا الاختلاف، والذي يتعاطف معه أبوها، ويصطدم معه شقيقها، ويحتار فيه المحبّ.


«ها هي تعي - في مباغتة موجعة - أنّ المصائر يمكن أن تتشابه، حتى ولو اختلفت الطرق التي تقود أصحابها باتجاهها، وأن حياتها يمكن أن تُسلب منها، مهما بدت مختلفة عن الأخريات.» مختلفة! ما الذي يدفعها لأن تعتقد أنها مختلفة عن الأخريات من حولها؟ مختلفة! لأنها إن أرادت أن تقود سيارة فإن أباها لن يمانع؟ مختلفة! لأنها استخرجت بطاقة أحوال خاصة بها؟

....

....

كل هذا يبدو لعينيها الآن هشّاً وملطخاً كنشارة خشب تطفو فوق سطح ماءٍ آسن.»


(جاهلية، ص95)



وفي سؤال لليلى: اختلاف «لين» من يحميه لها، ومنه كذلك؟ (في ظل عاشق يغيب عنه التقاط تفاصيله، ووالدٌ يتفهم، وفي ذات الآن يتآكله ذنب إنماء هذا الاختلاف)، فكم من «لين» هنا تتوحد مع اختلافها فيعزلها! لتجيب: «لا أدري كم من (لين) هنا تتوحد مع اختلافها فيعزلها! ما أدريه أن اختلافها لن يحميه أحد، ولا ينبغي أن يحميه أحد سواها، في آخر الأمر، لن يهتم أحد إلا بحماية مكتسباته الخاصة





زاوية أخرى:

ا(جاهلية) بين اللغة والسرد



نجد في النص أن عذوبة لغة النص تتقاطع مع سلاسة الانتقالات السردية للأحداث والشخصيات بتصعيد متوازن، وتتكثف الشاعرية في مواضع معينة دون إخلال بخط الموقف، كما تصنع مفارقات يتبدى جمالها في تحوير حضور مفهومها الجامد (بل العلمي أيضاً) لوقعٍ شاعري.


«كم سحرتها العظام. سحرها تشريح الجمجمة البشرية أكثر من أي جزء آخر. ستظل تستجلب دائماً شكل الدروز الثلاثة المرسومة على الجمجمة البشرية... .أحبت الله كثيراً بعد أن رأت تلك الدروز. أحبت إلهاً يشقّ أنهاراً ثلاثة فوق جمجمة. فكرت في صور الأنهار الملتقطة من الفضاء عبر الأقمار الصناعية، وابتسمت إذ لم يكن هناك اختلاف بين أنهار الأرض وأنهار الجمجمة


(جاهلية، ص59)



أما من ناحية صوت الراوي فتوزع بين الشخصيات الرئيسية بانسجام وافق تطور الأحداث، إلا أنه بقي بصيغة ضمير الغائب، كما ظل صوت لين الأعلى حضوراً بين الفصول، ومن ثمَّ هاشم ومالك، وأخيراً بحيز أقل للوالد. بينما اقتصر حضور والدة لين بما تراه عين لين نفسها، وهاشم (وإن كان أقل وطئاً فيه). فنفتح التساؤل عن الاحتمالات المثرية لو واجهت الأم القارئ بما في نفسها من زاوية الأم مرة، وعين امرأةٍ هي على النقيض من ابنتها ربما، لكنها تشترك مع سواد نساء مجتمعها من جهة أخرى، فنجد أن غياب الأمر قد لا يُعتبر مخلاً بالنص، لكنه كان ليدعم الفكرة.


على صعيد الزمن نجد أنه وعبر فصول الرواية جاء بصيغة الماضي، وكأنَّ كل شخصية تسترجع وقع الأحداث عليها بصوتٍ عالِ. وللحظة قد يستحضر القارئ أنها حكاية للزمن، وإن رُبطت بوقت حددته الكاتبة، وكأن بإمكان حفظها في كبسولة ستُفتح في مستقبل قادم، وستضل شجون تفاصيلها بذات التعقيد، وتداعيات الألم، لأن مكاشفتها الاجتماعية مازالت عابرة! تحاذي عيوبها دون التقاطع معها بحلّ.