وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

الاثنين، ذو الحجة ٠٤، ١٤٢٧

في قراءة لإصدارها الأخير «جاهلية» .. ليلى الجهني: (1من2)0

الأثنين 1427-12-05هـ
2006-12-25م

في قراءة لإصدارها الأخير «جاهلية» .. ليلى الجهني: (1من2)
مجتمعنا يستند في جميع أحكامه على منطق العيب
المرأة تجد نفسها ضمن إطار يلزمها تفهم هفوات الرجل على عكسه
- ليلى الجهني -


منال العويبيل - الرياض

هي روائية تمرُّ في حكاياتها بعود ثقابٍ على المواضيع، لتوقد ضوءًا على بعض ما يُسكت عنه في المجتمع بِحُكْمِ عاداتٍ تُطْبِق التغاضي أو التجاهل، في قضايا تتلغم بالتقادم (خاصة المرأة!)، وإذ تمرُّ في روايتها الصادرة مؤخراً (جاهلية) على عدّة فخاخ بشعلة حذقة دون افتعال الضجيج الذي يفتعله جديد الروائيين مؤخراً، فتترك نصها ليتحدث عن نفسه في ذهن القارئ لنتفرَّس معها حقل ألغامه، ونقرأ خطوط عقده. فلعل الأدب يصلح يوماً ما عجز عنه المجتمع.



(1)

«كذب العشّاق ولو صدقوا»


الحب، الحب، الحب.. منذ الأمثولات القديمة، وأساطير الهوى عبر التاريخ، وحكايا الجدات ومعلقات الشعراء، منذ عبلة، وبثينة، ولبنى، وليلى... . تطول القائمة ولا تنقص (ولا تنتقص).إلا أننا نأتي لحدود الـ (هنا) وتتناسل أسباب ومحاذير وأسوار تجعل سواد ما يضمه الكثير من الأدب المحلي من التغني بهذه العاطفة وأهلها من قبيل اختلاقٍ ما، على طريقة السينما الهندية في اختلاق عالم محنّى بالرقص والألوان في أفلامها لا يعكس حقيقة الواقع. ومن باب المغالاة الراهنة في مفهوم الخصوصية السعودية التي كبّلت المجتمع بكثير من القيود، نتساءل عن الكتّاب (رجالاً ونساءً) ممن ضمّنوا كتاباتهم حول الحب والمحبين باختلاف التصعيد أو التبسيط، من باب فكرة إنْ كان الرجل هنا يكتب عن الحب من قبيل الخيال مثلاً، وقد تكتب المرأة عنه من قبيل «الأمل».. هل كلاهما يكذبان ولو صدقا؟، لتقول لنا (ليلى الجهني): « ولِمَ نفترض أن الأمر يتعلق بصدق أحدهما أو كذب الآخر؟! ، ألا يدفع الجفاف الناس إلى أن يلاحقوا الغيث، بل ويرقصوا من أجل هطوله في بعض الثقافات. هذا الجفاف الهائل الذي يحيط بهذه الأرض، الجفاف الكامن في المعنى والمبنى معاً، ألا يمكن أن يدفع الناس -أكثر الناس- إلى محاولة صغيرة لاستجلاب غيث، حتى لو كان رذاذاً يـبل ولا يروي، وأنت تعرفين - يا منال - أنَّ الرقص يمسُّ هيبة الراقص هنا، فلتكن الكتابة إذن درباً إلى مقاربة قد لا تكون ناضجة بما يكفي، لكنها جديرة بأن تُحتَرم».



في (جاهلية) يتجلى ما يمكن وصفه بلعنة «الحب المستحيل» ، بمعضلة لا ترتكن لظروف المجتمع الصغير أو على مدّ الوطن، بل ربما هو صراع مجتمعات عدّة، خاصةً حين تظلُّ سلطة المجتمع أعلى صوتاً من المعنيين المباشرين في هذه العاطفة. فحين يجمع (لين) من طبقة «الحمايل» وَ(مالك) بفرق اللون كحاجز أول، ولعدم حصوله على الجنسية كعائق ثان، يجمعهما حبّ عفيف يصبوان به لنهاية منطقية بالارتباط، فيتجاوز الوضع سيطرتهما، وتتشابك الخيوط قبل تدخّل المجتمع حتى من ضمن هذه الخطوط يلوح لنا وسطٌ معقَّد يواجه فيه الطرفان صعوبات على المستوى الخاص بمنأى عن الإشكالات العامة القادمة.. فـ ( لين ) «البِكْر الرشيد» يمضي بها العمر إلى الثلاثينات دون زواج، واختلاف على مستوى الشخصية والفكر يغاير سواد الفتيات في محيطها. و (مالك) بمشاكله على الصعيد الاجتماعي والمادي والعرقي، بحالة تشبه تحرّش البنزين بالنار، فيلتهم البطلان القلق/ الأمل/ اليأس... .


فيتبدى ذكاء الحبكة بعدم جعل العقدة الوحيدة في هذه العلاقة فرق اللون (رغم عِظَمها)، فتصعيدها بعدة نواحٍ أخرى ينقل حالة الكاتب من مجرد التعرّض للقضية إلى تعرية تشير لكافة الإشكالات، دون تصدير خطابٍ مثالي يناصر صوت العاطفة فقط. حتى يصل الأمر بوالد (لين) الذي يتجاوز مسلَّمة تقديم الرفض (المفروغ منه)، إلى حالة يحدِّث فيها نفسه بماذا لو وافق؟، حتى تقوده تداعيات الفكرة ليرضخ لما هو ليس من المنطق بقدر ما يشعر بأنه مسلك سلامة!.


«وقفت أمامه وقد استسلمت لصمتٍ ينضح عتباً، وأطرق وهو يتساءل: ترى كيف يمكنه أن يقنعها بأنه اختارها هي، ولم يختر رضا الناس إذ قال لمالك: لا بأي الكلمات يمكنه أن يقول لها: إنه يرى ما لم تره، ويعي ما لم تعه... . »

« لا، لا، لا، لا، بقدر ما يمكن لأحد أن يرددها، لأنَّ الناس هنا بألوانها وقبائلها وأجناسها وأعراقها.... «


(جاهلية، ص 124 ، 131)



هي ذات المخاوف التي أثخنت بال (لين)، ولم تكن لتغيب عن ذهن (مالك)، لكنه ابتلاء الأمل، وقد روي في حديث الإمام « أحمد « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حُبُّك الشيءَ يُعْمي ويُصمّ) .




( 2 )

( I have a dream )
وَهْمُ « مارتن لوثر كنج « 0



الكبيربين تفرّع الانتماءات، وتأصيل حواجز لا مرئية لاختلافاتنا في المجتمع تتعاظم الفوارق لتشكِّل أسواراً تعلو على الانتماء الأكبر (للدين والوطن الواحد على سبيل المثال)، هي خصوصية لا يساوَم أحد عليها أو تعاب عليه طالما لا تمس من سواه بسوء تعصُّب. ورغم التصالح الظاهر مع هذه الاختلافات في المجتمع (في الخطوط الرئيسية خاصةً)، يبقى العمق الاجتماعي فارضاً لحدودٍ تتقبل الآخر طالما كان «فقط» على ضفّة أخرى تحفظ المقامات ولا تختلط بمصاهرة، بأسبابٍ لا ترتكن لشريعة: (من ترضون دينه وخُلقه)، ولا مأثورِ مقولة: (كلنا عيال تسعة)، أو (ما يعيب الرجّال إلا جيبه).

وإن كان علم الفيزياء الحديثة يؤيد أنَّ المتعارضات تجلب التناغم إلى العالم، ولا تسبب التشويش، من باب أن المنظومات التشويشية تُولِّد حالات من الانتظام الذاتي. نسأل (ليلى الجهني): في مجتمع لا يستجيب للعواطف، ولا يُقـرُّ المنطق.. على ماذا تراه يستند في أحكامه؟ (في حال أقررنا أنّ اختلافاتنا هنا متعارضات).. لتقول: « على منطق [ العيب ].

تأملي معي ملياً يا منال، ربما ترين ما رأيته منذ وقت، وتألمتُ وأنا أدركه: لا شيء يسير حيوات الناس في هذا المجتمع سوى العيب. القاعدة التي تحكم وتضبط تصرفات الفرد - العلنية خاصة - هي مقدار اقتراب تلك التصرفات من منطقة العيب أو ابتعادها عنها، ليس الحلال أو الحرام، وليستِ القيم والأخلاق والمبادئ التي تفيض بها الكتب والصحف والمسلسلات، بل ألا يعيب الآخرون تصرفاته.

ولعل أشنع ما يغيب عن الذهن في وضع كهذا، أن المرء يحيا حياته من أجل الآخرين، لا كما يريد ويحلم. وكم أغبط هؤلاء الذين تمضي حيواتهم بهذه الطريقة دون أن يشعروا ولو للحظة بأنهم خسروا كثيراً دون معنى ».

من هذه الفكرة التي قالتها ليلى يعلو هذا الصوت في (جاهلية)، ويصبح إجلال سلطة العيب أعلى من ضوابط الدين، والمبادئ، والمنطق... فرفض (والد لين) مصاهرة (مالك) يتبع جريرة الملامة، ومجون (هاشم، شقيق لين في الرواية) تخضع مخافة عواقبه من اكتشاف أمره أكثر من أي شيء، كذلك المنطق الذي تنطلق منه والدتها في الحكم على الأمور... .

« لم تدرِ لين كيف يمكنها أن تذكِّر أمها بأنها ابنتها، وأنَّ الناس لن يكفّوا عن أكل وجهها مهما فعلت. سيجدون دائماً ذريعة لأكل الوجه »

(جاهلية، ص 74)



أما من ناحية اختلاف اللون فيرتكز عمق الطرح فيه على الإيغال، حيث إن تناوله في ثنايا الرواية لم يجعله كالعنوان العريض للعُقدة بالرغم من أهميته، فكان التعرّض لتبعات الأمر في عينيّ البطلين، والوالد كذلك، يعرِّي النظرة النمطية حول هذا الأمر دون تلطيف، بل مواجهة تستخدم المسميات بمكاشفةٍ مباشرة لواقعٍ راهن.

« لكنه أسود، وإن لم ينظر إلى لونه فإنَّ الناس لن تفعل شيئاً غير أن تنظر إلى لونه، وسيؤذون لين، ولن تحتمل لأنهم لن يكفّوا. في كل مرة يرونهما معاً سيرتسم على وجوههم ذلك التعبير البغيض المستنكر؛ لأنَّ كثيراً من الناس هنا لن تظنّ عندما ترى رجلاً أسود وامرأة بيضاء يسيران معاً أنهما زوجان، وستلاحقهما الظنون والأسئلة طول الوقت. أراد أن يقول له ذلك، غير أنه فشل في إيجاد الكلمات التي تقوله دون أن تجرح رجلاً يقابله للمرة الأولى »

(جاهلية، ص 130)



وهكذا تأتي النعوت في ثنايا الحبكة: العبد، التكروني، الكور، وغيرها من الألفاظ التي تنطلق في المجتمع من عنصرية لا واعية، وتتبدى في مواقف عابرة لتوضح مدى رفضها على سبيل التصريح، لكنها تتواجد خاملةً في بواطن البعض حتى يأتي ما يستظهرها للسطح، كونها لم تُعالج من العمق، ليبدو أجلاها في فهم (مالك) نفسه، وكيف يتواءم مع من لم يتكلف عناء وعيه.



( 3 )

قالت: أخي!! فالولد مولود, والزوج موجود, والأخ مفقود



حكمت العادة على تضخيم الدور الذكوري في المجتمع، فالرجل منذ طفولته يُكلَّف بمهام باعتبار جنسه وقبل أهليته لها حتى، ونجد أوضحها وصايته على شقيقاته سواءً كنَّ أكبر منه أو يصغرنه، وبمعزل عن ظروف فعلية تستلزم هذا الأمر، فمجرد ولادته كذكر يُمنح امتيازات متفاوتة تصل أحياناً للتسلط، وكم نصادف من علاقات أخوية بالغة التوتر أججها فقط طبيعة هذه الأدوار، والتي يزكّي حضورها الوالدان والمجتمع من باب فكرة القوامة التي يُنسى ضوابطها الأخرى، إلى جانب أنها من باب التكليف، وليس التشريف كما شُوِّهت فكرتها.

« أخته، أخته، أخته. أكان يجب أن يكون له أخت؟ امرأة ليست أمه، وليست عشيقته. امرأة لا يستطيع أن يثق بها، ولا أن يتسلى معها. امرأة يحرمه أبوه سلطة أن يردعها عن الإضرار بنفسها، يحرمه سلطة أن يحميها مما عرفه عن العالم من حوله. امرأة عليه بعد هذا كله أن يتفهم أخطاءها، ويراقبها وهي تقع ويشجعها كي تقف من جديد. »

(جاهلية، ص 18)



نسأل ليلى.. ارتباك هاشم إزاء لين كأخت، وعُقم مجادلة نفسه تجاهها، بدا الأمر أقل ضبابية في بتِّ لين في أمر هاشم، هل علاقة الأنثى بالأخ الذكر أكثر وضوحاً لها منه، بحكم الأدوار التي تُفرض على كل منهما حاكماً ومحكوماً؟ فتجيب: « أتذكر الآن ما قالته إيزابيل ألليندي في (باولا): (إن التشيليات ملكات أحياناً ضمن جدران بيوتهن. ولكن الذكور هم الذين يتحكمون بالسلطة السياسية والاقتصادية وبالثقافة والعادات، وهم الذين يشرِّعون القوانين ويطبقونها على هواهم، وعندما تعجز الضغوط الاجتماعية والجهاز الشرعي عن إخضاع أشد النساء تمرداً، يتدخل الدين بطابعه الأبوي «البطريركي» الذي لا يمكن إنكاره. لكن ما لا يمكن غفرانه هو أن الأمهات بالذات هن اللواتي يُعززن النظام ويمنحنه الديمومة بتربيتهن أبناء متعجرفين وبنات مستعبدات).


وكما تضيف: «هذه هي المسألة، وهي لا تتعلق بالوضوح، بل بأن المرأة تجد نفسها ضمن إطار يلزمها بأن تتفهم وتتقبل وتغضُّ الطرف عن هفوات وأخطاء ونزوات الرجل بغض النظر عن طبيعة علاقته بها وحدودها؛ دون أن يُلزم الطرف الآخر بأن يكون معها كما تكون معه. راجعي كل المقولات والوصايا والتوجيهات التي تجابـَه بها المرأة حول التعامل مع الرجل وضرورة احتوائه، وابحثي -في المقابل- عما يشبهها أو يقاربها ويوجَّه للرجل حول احتواء المرأة وكيفية التعامل معها، لن تكون كفتا الميزان متوازنتين أبداً «.


قد نتفق في الرواية أن اضطراب العلاقة بين هاشم ولين لا يمكن تعميمه، لكنه أيضاً غير قابل للنفي، وساهم في تعقيده أطراف عدة تبدأ فعلياً من الأنثى نفسها كأم، بل وحتى الأخت ذاتها حين تُنشأ على مفهوم الاستضعاف والجناح المكسور، مما يؤدي لتبرير أي استبداد في العلاقة. وبالتالي تبدو أي محاولة وضع حد لهذا التعنت تمرد يستلزم التأديب. يأخذنا هذا الأمر حين يتكشف للين عبر حوارها مع (شرف) نزيلة دار الرعاية الاجتماعية التي تعمل فيه بأنَّ لكلٍّ همّه وإن اختلفت التفاصيل:

« لا ، لم تعرفي عن الألم ما عرفته. لم يضربكِ أخ أصغر منكِ، لأنَّكِ امتنعتِ عن تجهيز الشاي له ولرفاقه. لم تجربي أن تسأليه بغضب مخنوق: بأي حق تضربني، فتنهرك أمك: اشششش، لا ترفعي صوتك على أخيكِ. لم يسبق أن أنزلكِ هذا الأخ من السيّارة، وأنتِ تستعدين لمرافقة أمكِ إلى زيارة عائلية، دون أن يشرح لكِ لماذا هو مصرّ على أن تنزلي وألا ترافقي أمك، مكتفياً بأن يقول ببرود: روحة ما أنتِ رايحة، أنزلي يللا. «

(جاهلية، ص86)