وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

الاثنين، أبريل ٠٢، ٢٠٠٧

تحقيق// أيهما أكثر جرأة .. الشاعر أم الشاعرة السعوديين؟


الأثنين 1428-03-14هـ
2007-04-02م

العلي يميل إلى أن الشاعرة أكثر تعبيرا عن نفسها
أيهما أكثر جرأة .. الشاعر أم الشاعرة السعوديين؟

- محمد العلي -


منال العويبيل - الرياض

في تصريح للشاعر القدير « محمد العلي» إبان حوار له مع مجلة «الاتصال والإعلام» في عددها الأخير وضّح إنّ الشاعرة السعودية أجرأ من الشاعر الرجل في لغة الجسد في الشعر وفي الرواية . وفي تصوره يعود السبب في ذلك إلى انفجار المرأة، كون سجن الرجل كان أقل سياجاً من سجنها . وقد أعطى مثالاً أنّ «غيداء المنفى» كانت أكثر جرأة من أي شاعر موجود تعبيراً عن لغة الجسد، الذي هو تعبير عن السجن نفسه . حيث إنّها - أي «غيداء المنفى» - عبّرت عن سجن المرأة بشكل مختلف تماماً عن تكلّم الرجل عن أي سجن آخر .

ومن هنا نستطلع رؤى عدد من الشعراء حول مفهومهم الخاص للجرأة الشعرية في قصيدة الشاعر السعودي مقارنة بجرأة الشعر النسوي المحلي إن أمكن الوصف، وأبعاد هذه الجرأة .. من حيث أسباب محدوديتها إن اُرتأى ذلك، أو نفي الرأي، في حال كنّا أمام حالة تستوي فيها الكفتان.

الشاعر «علي العمري» ينفي الفكرة التي طرحها تصريح الشاعر «محمد العلي» بقوله : لست متأكداً من صحة هذا الحكم، هل المرأة بالفعل كانت أكثر جرأة! شخصياً لم أقرأ لـ «غيداء المنفى» ، ربما كان النص الروائي الجديد مغامراً أكثر، وربما الكاتبات بالتحديد يعانين أكثر وطأة الظرف الاجتماعي . لكن ما أعرفه أنَّ لغة الجسد التي يشير لها «العلي» صارت موضة كتابية، وأداة يبحث عبرها الكاتب أو الكاتبة عن الفضائحية وصولاً إلى «البست سلر/ أفضل المبيعات».

لكن بعيداً عن أفعل التفضيل - كما يضيف العمري - أقول نحن بالفعل نحتاج النص الجريء الذي يستطيع بوعي أن يتعامل مع تابوهات واقع يصل الى حد الكابوسي أحياناً. فالجرأة أو الحرية هي مبرر أيّ كتابة إبداعية وبدونها لن ينتج نص مهم .. جرأة تطال الحس والذهن معاً أو الجسد والروح، كيف يمكن إنتاج نص إبداعي يحمل عاهات المكان كاملة، وتشوهاته، وقسوته الإنسانية، ويظل نصاً مقنعاً فنياً!.. كيف لنا أن نكتب بعيداً عن مجانية الشعار ، وعن سطوة ومتطلب الآلة الإعلامية الراهنة، كيف للكتابة أن تتجاوز مراهقتها! أسئلة كثيرة لن يجدي معها أي أفعل تفضيل، ولا أي وصفة جاهزة نغري بها الكتّاب الجدد ولو كانت من قبيل لغة الجسد.

الشاعر «عيد الخميسي» ينزح لاعتبار رؤية «العلي» شخصية، وتتطلب تفصيلاً أكثر فضفاضية، يقول : يظل ما صرَّح به الشاعر «محمد العلي» رأياً خاصاً به، ويمكنني كقراءة أن أشير إلى أنَّ هذا الرأي مازال بحاجة للإضافة والتوضيح التي - ربما - لم تتح المناسبة والكيفية للأستاذ العلي توضيحها. ويضيف : هناك أسئلة كثيرة تحضرني حول مفهوم الجرأة؟ وماذا تعنيه؟ فهي - برأيي - مسألة نسبية، وقد تختلف من مجتمع ( زمن) فضاء إلى آخر، وهي في ذات الوقت مرتبطة بطبيعة متلقي النص، أو الفن، أو المنتج، والمجال الذي يبحث فيه أو عنه . في ذات الوقت لا يمكنني كقارئ أن أفصل الخطاب الشعري نوعياً إلى خطاب حسب الجنس . وما يحدث من تفصيل لهذا الخطاب يتم في رأيي حسب مدارس نقدية تراعي الموضة والاتجاهات النقدية الدارجة، ومن ثم تتجه لفصل النسوي عن المذكر في المنتج الشعري أو الثقافي. بالنسبة لي أقرأ خطاب «علي العمري» أو «سعود السويداء» أو «حمد الفقيه» أو «هدى الدغفق» بصفته خطاباً شعرياً في الدرجة الأولى والأخيرة. وما يهمني كقارئ هو مدى القدرة على إحداث أثر جديد ومختلف في ( قيمة النص الشعرية ) . في رأيي أن الجرأة المهمة ( حسب مقاييسي هذه ) كانت في الأثر الذي خلقه ويخلقه الشعر السعودي الجديد في التسعينات.

ويختم رأيه بقوله : أما عن احتساب نقاط الجرأة ضمن خانة التعبير الجسدي ( أو الإيروتيكي حسبما أفضّل تسميته ) فإننا أمام موضوع بات يشكِّل تياراً يشتغل عليه كثيرون في مشهد الشعرية العربية كذلك . فهي نقاط لم يكن تسجيلها صعباً . هناك سمة إيروتيكية تطبع اللحظة التي نعيشها، وتتجلى في معظم نتاجات الفن( الأزياء) الميديا، ومن ثم فإن التنويع عليها وإضفاء الصبغات المحلية وحسب هو مجرد تلوين وليس تقدماً لمناطق جديدة.

الشاعر «عبدالله السفر» تناول في رأيه فكرة القيد الحائمة حول المبدع على الصعيد النسوي والرجالي، وأبعاد هذا القيد الذي يلقي بحضوره على الانتاجات الكتابية بما يفرضه من تحفّظ أو جرأة، يقول : تختلف درجة تعامل الكاتب أو الكاتبة مع القيود المحددّة للتجربة الإنسانية التي يتماسّ معها على نحوٍ إبداعي . ثمّة قيود اجتماعية، وسياسية، ودينية، ومعرفيّة خاصّة بالمبدع نفسه، وبالمساحة التي يشتغل عليها. هذه القيود العامة هي ما أجّلتْ انطلاق كتابة حقيقية ؛ تتنفّس هواءً غير مدجّن، ولا يسارع إلى الامتثال ودخول بيت الطاعة، حالما يبدأ الأزيز التصعيدي التصادمي، على ما شهدتْه فصولٌ من كتابتنا المحلية . وبصفة عامة الجدار الذي يرتفع أمام الرجل المبدع غيره الذي يرتفع أمام المرأة المبدعة؛ حيث القيود تتضاعف مع امتداد الصورة الأنثوية في الذهنية التقليدية عن الاستكانة، والإذعان، وخفض نبرة الدفاع عن الحقوق، وكبح السلوك التوكيدي عن أن يعبّر عن ذاته إزاء ما يحدث، وما يقع على «الأنثى» ، وتغذية روح الاعتمادية باعتبارها الاستجابة الجاهزة حيال أمور الحياة .


إذاً، السلطة التي تنتصب قبالة المبدع؛ ليست تلك التي تقوم أمام المبدعة. ومن هنا اختلاف درجة الخروج أو «الجرأة» على ممارسة حرية القول الكتابي أمام الملأ . المغريات والمحرضّات لكسر السور وخرق الجدار؛ تزداد مع حجم العقبات والموانع . كلما اشتدّ القيد وأحمرّ المعصم بالكدمات؛ تصاعدتْ شهوة الحرية وشهقة الحياة . وإذا أضفنا بُعداً آخر لهذه الجرأة ومحفزّاتها، هو البعد السيكولوجي، ونعني به البوح والإفشاء بوصفه أكثر التصاقاً بالأنثى من الرجل، وتمثّل الرواية ميداناً شاسعاً يمكن للبوح أن يمدّ حنجرته وخطواته إلى أبعد مدى.


أقول هذا - كما يختم السفر - لتفهّم ولتعقّل، لماذا مساحة « الجرأة « فيما قرأناه روائياً محلياً عند الكاتبة أكثر من الكاتب . لكن خارج هذا الإطار من التفهّم والتعقّل . لا تمثّل الجرأة وحدها مقياساً لجودة المكتوب, ذلك أن خرق السائد، وما تمّ التواضع عليه اجتماعيّاً، إذا لم يجر معه تحقّقات فنية ومكتسبات جمالية؛ فإنه يظلّ في دور المماحكات الأيديولوجية، والمزايدات الفظّة التي تُسيء إلى الحركة الأدبية، قبل الإساءة إلى شيءٍ آخر.



- د. عبدالله الفيفي -
الناقد الدكتور «عبدالله الفيفي» يتصدّر للحديث في مستهل رأيه حول تصعيد مفهوم الجرأة، وأبعاد التسليط الإعلامي على ذلك في النتاج الإبداعي، إذ يبدأ بعدد من التساؤلات بقوله : أجُرأة هي، أم مراهقة اجتماعية؟! أيّ معنًى ينبثق الآن في الذهن حين نستعمل وصف «جُرأة» في الأدب، أنعني الجُرأة على طرح الحق، والخير، والجمال؟ أم نعني الجُرأة على طرح الزيف، والشر، والقُبْح؟ أم نعني الجُرأة على طرح هذا وذاك، وكيفما اتفق؟ بمعنى آخر، هل الجُرأة قيمة في ذاتها، أم هي وسيلة إلى غاية؟ وما تلك الغاية؟ أهي الإصلاح، أم محض الشهرة، ولفت الأضواء؟ على محكّ هذه الأسئلة تتحدّد القيمة، وكل ما عداها تابع لها.

ويردف : نعم، الأدب بمعزل عن الدين والأخلاق، كما أقرّ ذلك النقد القديم والحديث، لكنها تظل للأدب وظيفته التربوية الساميّة، على مستوى الفرد والجمع، لا بالمعنى الأفلاطوني المتزمّت المحدود، وإنما بالمعنى الإنساني المنفتح الشامل. إن الأدب الحقيقي أنأى ما يكون عن اتخاذ الأسلوب «الفضائحي» سلّمًا إلى سماء الشهرة، أو نَفَقًا إلى المال والتجارة! ولقد راجت مؤخّرًا مفردة «جُرأة» في وسطنا الصحفي، و «الإنترنتي»، إشارة سمجة إلى سباقٍ محموم في مضمار التعرّي، والتركيز على كل شاذ، وتضخيم كل نزوع مريض. وزُجّ بالمرأة - طوعًا أو قسرًا - في هذا المضمار، تشجيعًا، ودعمًا، وإعلامًا، كما كان يُزجّ بها عبر التاريخ من قِبَل المجتمع الذكوري، في الفنّ، والإعلام، والأدب، باسم الحريّة، ونُصرة حضور المرأة، ضمن اتجاهٍ عام يغلب عليه ابتزاز المرأة واستغلالها، وفق منهجيات عتيقة أو جديدة! وهكذا تقاطرت كاتبات سعوديات وغير سعوديات في العِقد الأخير، زرافات ووحدانًا، في حفلة عامة، وجماهير الفحول يصفّقون، لأعمال في معظمها لا قضايا لها، ولا أدب فيها، وإنما هي كتابات متردّية، لغويًّا، وأسلوبيًّا، وفنّيًّا، همّها الطاغي الإثارة، واستجداء ردّات الفعل الاجتماعية، وبريق الذيوع والصيت، وبأيّ ثمن أو معنى! ومن ثمّ يتبدّى أن الموجة الكتابية الصارخة حاليًّا في عالم النساء العربي، شعرًا كانت أو رواية، لا أدب في أكثرها، لا بالمعنى النقديّ للأدب، ولا حتى بالمعنى الأخلاقي للكلمة! ذلك أن الكاتب حين لا يمتلك ناصية لغته، ولا يمتلك أدوات المعالجة النفسية والاجتماعية للقضايا التي يتصدى لها - وإن بطريقة غير مباشرة - لا يعدو كونه مروّج وباء، وناشر فساد، ومشيع فاحشة، يُطبّع النفوس على تقبّل كل ساقط قبيح، فإذا هو يسهل عليها فتستسيغه، لاسيما في بيئة تنظر إلى الكاتب بوصفه قدوة حسنة، وما يُلقي به مُثُلاً تُحتذَى . فلا غرابة إذن، والحالة هذه، أن نلفي كثيرًا من المطروح الآن في الأسواق من نتاج كتابي، وبخاصة فيما يسمى رواية، لا من طبيعة الأدب في شيء، ولا من وظيفته في شيء؛ إذ ليس أكثر من بحثٍ عن «فرقعة» إعلامية وتجاريّة، على غرار الأغنية العربية الهابطة، والفيلم العربي الهابط!

إن الأصل في الأدب الحُريّة، ولا ينبغي أن يكون هناك محظور على تعبير الكاتب ولا قيد، شريطة أن يكون الكاتب كاتبًا، والشاعر شاعرًا، والروائي روائيًّا، يفقه فنّه، ويعي مسؤولية كلمته، ليس دعيًّا، ولا صاحب هوى، يتخذ الأدب وسيلة إلى غاية، غايتها القُصوى أن يشار إلى فعلته بالبنان أو بغير البنان، وبأي شكل كان! حتى إذا انتهينا إلى الوضع الاجتماعي المحلّي، وما يثار من تفوّق المرأة على الرجل في الجُرأة على «التعبير عن لغة الجسد»، فما أشبه الليلة بالبارحة! وهل ننسى أن المرأة عبر تاريخ البشرية - منذ شهرزاد وقبل شهرزاد وبعدها - هي مدفوعة دفعًا لممارسة هذا النوع من التعبير، إنْ في الواقع أو على الورق، بتغرير من الرجل تارة، وغفلة منها تارة، ولمآرب تجمعهما تارة أخرى، أو بمزيج من هذه العوامل كلها.


وفي مجتمع منغلق، يسوده إقصاء المرأة، كمجتمعنا، تستفحل الظاهرة، على نحو فجّ، سرًّا أو علانية، في نوع من التعويض النفسي والاجتماعي، للرجال وللنساء، على حدٍّ سواء! وبذلك تجري الأمور في ردود فعلٍ مرضيّة متطرّفة، لتمثّل حينئذٍ ظواهر اجتماعية، لا أدبيّة، تُمارس في نطاقها الاجتماعي مراهقاتها، عنفًا لعنف، بلا هدف ولا رويّة ولا رؤية. والمرأة - بطبيعة الحال - أكثر تأهيلاً للنهوض بهذا الدور في مجتمعاتنا، ليس للأسباب السابقة فحسب، ولكن أيضًا من حيث هي محميّة اجتماعيًّا أكثر من الرجل، لا تتحمل من التبعات مثل ما يتحمّل، ولا تُواجه ما يُواجه، ولا تُحاسب كما يُحاسب؛ لأنها تظلّ - حسب أعرافنا الموروثة، ومهما فعلت - : امرأة، لا «شَرَهَ» عليها! هناك خطوط دفاع عريضة طويلة دون أن يمسّها فيما تقول ما يمسّ الرجل . أمّا حين تتخذ المرأة اسمًا مستعارًا، أو يكون الكاتب - أصلاً - رجلاً باسم أنثى، فنَعْتُ الجُرأة في التعبير عندئذٍ بلا معنى، وأيّ جُرأة هنا لدى من لا يجرؤ حتى على أن يعلن اسمه الصريح!