وَ جَفـَّـتْ الصُحُف

السبت، شوال ٠٦، ١٤٢٧

تحقيق// النصوص المثيرة بين جدل حقيقتها.. وذكاء كاتبها

اليوم الثقافي


بعض القراء يبحث عن تماثل الأحداث مع الواقع

النصوص المثيرة بين جدل حقيقتها.. وذكاء كاتبها

بوخمسين : من الطبيعي لدى البشر النبش عن الفضائح



منال العويبيل _ الرياض

ثمة ولع يتملك بعض القرّاء بالنصوص التي يرتكز ساردها على أحداث حقيقية حصلت في الواقع، بما يجعل الجدل الذي قد تثيره يتمحور حول مدى صدقيّة الشخصيات والأحداث بغضّ «النقد» عن أداء الكاتب نفسه.. (بنات الرياض)، (الإرهابي 20)، (الآخرون)، ومؤخراً (شباب الرياض).. نصوص استقطبت إثارة عُنيتْ في أولى بنودها بواقعية ما تناولته من أبطال والأحداث المُثيرة التي مرّوا فيها. إلا أنّ هذا لا يعني أنه لم تمرق العديد من فضلى النصوص الإبداعية بسحرٍ جعلها تشير للواقع بفوهة سبابتها. ومع هذا يجد العديدون سحرا أخصّ للفظة «قصّة حقيقية».

_هبة بوخمسين_



بدءاً ترى القاصّة هبة بوخمسين أن القارئ بطبيعته يميل للحدث الحقيقي بشخوصه الواقعية، وما يحمله من تفاصيل خاصة الكاسرة للواقع المتعارف عليه، والمتمردة على مضامين الحياة الاجتماعية؛ لسبب بسيط متمثل بالإثارة التي تجيء بعده، وبالأحاديث التي سيتناولها قارئ النص، وبالبحث عن مواطن الحقيقة بين التفاصيل، وإسقاطها على كاتبها، أو على من حوله، أو حتى بالبحث عن صاحب القصة الحقيقية لو لم يجئ النص على ذكره صراحة.. وهو ميل عام وطبيعي لدى البشر في النبش عن الفضائح، وأن يأتي المطلع على الفضيحة بها قبل غيره؛ ليكون له السبق في نشر أخبارها. إنه عالم مضحك على بساطته وسذاجته ولهوه السطحي الذي لا يدرك أصحابه النخور التي يحدثها فيه بسبب اهتماماته وأفعاله الغريبة.

وتضيف حول دور الكاتب في التصريح عن مدى حقيقية نصه: هناك حقيقة وراء كل نص، سواء جاء الإعلان عنها صراحة أم لا. فالكاتب يستحضر شخوص نصه بمختلف أجناسه من الواقع المعاش.. مسألة كون النص حقيقيا، أم متخيلا، وتصريح الكاتب بذلك من عدمه يفترض أن نكون قد تجاوزناها، فالمهم هو القيمة الأدبية الإنسانية من وراء النص، وهذا ما يجب أن نأخذ وعي القارئ إليه. ليس كل نص حقيقيا في وقوعه 100%، قد يكون كله متخيلا، ومستقاة أحداثه من وقائع حياتية، وقد يحتوي على تفاصيل إنسانية دقيقة حقيقية دون الإشارة لأصحابها، فنحن في النهاية جزء من حياتنا اليومية، ولا يمكن الانفصال عن ذواتنا حتى بتقديم نص فانتازي، فإن كل الإسقاطات والرموز فيه تعبر عن واقع حقيقي. أما في حال تصريح الكاتب عن واقعية نصه حدّ الحقيقة فتجد أن الأمر سيكون مثار اهتمام بكل تأكيد، وتردف بقولها: القارئ يميل غالبا لاستقراء تجارب غيره والبحث عن تفاصيل أصحابها، ووقوع أحداث النص الحقيقي له من الإثارة ما هو كفيل بجذب القارئ دون النظر لجمالية عرض الموضوع الأدبية أو الفنية.

وتوضح أنه على الكاتب التحرر من كل قيد عند تطرقه للنص الإبداعي. أما التوثيق فهو أمر مختلف يلزم ناقل الحدث بألف قيد إنساني لنقل الوقائع كما حدثت. لذا فإنني أدعو كتّاب النصوص الإبداعية إلى رصد اللحظات الإنسانية من خلال اهتمامهم بالتفاصيل، وأن يطلقوا العنان لخيالهم عند كتابة أي نص دون قيود الحقائق التي وقعت فعلاً، ففي النهاية هناك وقائع حقيقية حدثت فعلا وهي - من ناحية منطقية - تُعَدّ أغرب مما يمكن تخيله. ومن ناحية، كل نصوص الكاتب (خاصة تلك المقدمة بصياغة الأنا الراوي) معرَّضة لهذه التساؤلات، والمصيبة الأكبر عندما تجيء التساؤلات من كتّاب آخرين، وليس من القارئ العادي الذي يُغفر له هكذا تساؤل. أرى أنه من الواجب على المتعاطي للنص الأدبي البحث عن جمالياته الأدبية والفنية، والتعايش مع أحداثه بتجرد من أي أحكام مسبقة. الأهم أن تصل الفكرة وهزة المشاعر المتعايشة مع النص بشكل حقيقي.

وحول تجربتها كقارئة مع نوعية هذه النصوص تقول: عندما أقرأ فإن حقيقة واحدة أضعها أمامي أيًا كان النص الأدبي وتفاصيله، وأيًا كان كاتبه، وهي أن كل حدث مهما جاء ببساطته أو تعقيده، جماله أو قبحه، طيبته أو شره.. فهو بحقيقته يمكن أن يحدث لأيٍ منّا في أي زمان ومكان، بغض النظر عن حقيقته الفعلية، إلا إن جاء التصريح بحقيقته فإن اهتمامي يعتمد على نوعية الحدث والشخصية، فقد يمر عابراً كأي حدث اعتيادي، أو ربما يدفعني الاهتمام للاستزادة بالمعلومات عنه من مصادر أخرى.

_ خالد ربيع _



القاصّ خالد ربيع يجد في مستهل رؤيته أن هذا الجدل - الذي هو محل تساؤلنا- ربما يحدث عند القارئ العادي، وليس القارئ الذي تُشكّل عنده الرؤية الفنية أساساً جذرياً. ويضيف: تذكرين في بداية هذه السنة، ما حدث من جدل عند صدور رواية «بنات الرياض»، لقد كان جدلاً اجتماعياً بامتياز، وجدلاً ثقافياً أيضاً، لكنه كان واضحاً أن الجدل الاجتماعي يختلف في مناقشته اختلافا كلياً عن الجدل الثقافي، وبالفعل تساءل العامة من الناس عن حقيقة الشخصيات والأحداث، وألحّوا في السؤال على كاتبة الرواية، في حين تداخل الجدل الثقافي كراصد لما يحدث، وأقرَّ بأن المستوى الفني غير مؤسس في تلك الرواية، وحسم الأمر. بينما ظل الجدل الاجتماعي دائراً حتى اللحظة.
ولكن دعينا - كما يضيف أيضاً- نتأمل في نص (آيات شيطانية)، أو (وليمة لأعشاب البحر)، أو (الغواية الأخيرة للمسيح)، أو حتى (أولاد حارتنا) برمزيتها، و(شيفرة دافنشي) ببوليسيتها.. سنجد أن الجدل كان متأرجحاً من حيث المنطلقات بين العامة والنخبة، لاسيما أنها نصوص مبنية على تاريخ وواقع معروف، أو تاريخ ديني، لذلك رفضتها العامة بينما تذوقتها النخبة..

بشكل عام أجدني مقتنعاً بمقولة: أنه لا يوجد نص برأيي، فكل نص يحمل غوايته في رحمه، وهذه الغواية إما أن تولد للقارئ كابن شرعيّ ومقدس، أو كابن غير شرعي ومنبوذ.. ويجب أن لا ننسى أن التابوهات المعروفة الدينية، أو الجنسية، أو السياسية، هي ما تحرك العامة، وتجعله يتساءل عن صدقية النص من عدمه، بينما ينشغل الإنسان المثقف الشمولي والمتوازن في رؤيته بعناصر مغايرة تماماً.

وحول دور الكاتب في توضيح الشك لدى القارئ يردف: للفن الحقيقي مصداقيته الخاصة، وهي بالضرورة تكشف عن نفسها في سياقها الداخلي.. ولهذا فالنص الذي يحتكم لرؤية فنية متماسكة يلغي عملية توثيقه على أساس أنه مستند إلى واقع من عدمه. من هنا أعتقد بأن الكاتب المبدع دائماً ما يركن إلى تجويد نصه تحت أشراط الفن وحده - الأمر المتحقق نتيجة للملكة الإبداعية لديه - وعليه فهو لا ينشغل بتساؤلات القارئ في كون النص مبنيا على ما هو حقيقي، أو ما هو متخيل.
على سبيل المثال: كشف الروائي إبراهيم أصلان قبل عدة أشهر عن الشخصيات والأحداث الحقيقية في روايته «مالك الحزين»، كان مجرد حديث عابر لم يأبه له القارئ بسبب - كما أعتقد - أن الرواية كانت فنياً جيدة، لذلك لم يهتم القارئ سواء العادي، أو المثقف، وعبرت إليه المعلومة كعنصر ثانوي في رواية جميلة.
هكذا ببساطة ينتصر الفن على الواقع، ويشكل واقعاً، ووجوداً خاصاً به. إلا أن الإعلان عن حقيقة النص يتوقف على وعي القارئ وذائقته وتركيبته السيكولوجية، لكني على افتراض دائم بأن القارئ إنما يقرأ لتحقيق المتعة الذاتية، وهذه المتعة لا تتأتى إلا من خلال الفن الحقيقي المدهش والممتع..
وسواء أعلن الكاتب عن واقعية، أو عدم واقعية أحداث نصه، فإن القارئ له ميزانه الخاص، أفترض برأيي أن يكون ميزان الفن. وأعود فأقول إن الكاتب المبدع لن تعنيه الأحداث أو الأشخاص لنص سيكتبه، في جزئية معينة على الأقل، ولكن هذه الواقعية ستمهّد لديه أرضاً خصبة، ومضماراً فسيحاً للانطلاق.. واقعية الأحداث والشخصيات تستنفر بداخله الخيال، وأعتقد أن هذا كان مربط الفرس في الكتابة بطريقة الواقعية السحرية عند «خورخي بورخيس»، و»غابرييل ماركيز» ، و»إيزابيل»، وغيرهم. وحتى إن كانت تاريخية، فإنها تفجر مثلاً واقعية رمزية كحالة «أولاد حارتنا» مع الفقيد «نجيب محفوظ». إذاً، أجزم بأن واقعية الأحداث ستكون بمثابة عامل مساعد عند الكاتب المبدع، أما الكاتب المتقلص فستكون عليه بمثابة قيود، وعوائق ليس أولها تحري الحقيقة، ولكن التأزم النفسي الذي سيعيشه جراء هذه الكتابة.

وحول ما عاناه من التحقق حول صدقية نص قرأه يجيب: لا.. أبداً لم يحدث، ولا أعتقد أنه سيحدث. أما نصوصه الخاصة فيردف: مع أنني لم أنشر ما كتبت على الملأ، ونشرته فقط في محيط الأصدقاء، ومحيط المكان الذي أكتب عنه، وهو الحارة التي نشأت فيها في مدينة الطائف، فإنه يجب أن أوضح أنني لا أعتد بما كتبت طالما أنه لم ينشر، وبالتالي هو خارج نطاق الحكم، ولكن لأسردها وكأنها تجربة ذاتية.. كانت النتيجة صاعقة، رفضوا تماماً التلاعب في رواية حياتهم - ستة أشخاص ناقشوني - وأصرّوا على أن ألتزم بقول الحقيقة، ورواية ما حدث بصدق ونزاهة، وحاولت إفهامهم أني لا أكتب تاريخاً، ولكنه خيال مبني على تلك الأحداث..


ولك أن تتخيلي؛ أرسلوا لي رسالة على هاتفي الجوال بطريقة المزاح طبعاً: قررنا سفك دمك، وأن لا تدخل الحارة مدى الحياة وأن.. وأن.. نعم كانت دعابة، لكنها نابعة من شعور حقيقي بأني أزوّر الحقائق. بينما كان رد فعل الأصدقاء المنطلقين من رؤى الفن أن العمل جيد ويمكن نشره.. ما أريد قوله: إن الناس يا سيدتي لا يفضلون افتضاح أمورهم، والحقيقة يجب أن تُجمَّل، والصورة يجب أن تخضع لرتوش حاذقة؛ لتبدو باهية.



_ محمود تراوري _


القاصّ والروائي محمود تراوري يجد أنه من غير الضروري أن يمر النص الناجح الذي يتناول مضامين اجتماعية مثيرة للجدل خاصة، بدوامة التساؤل حول حقيقية ما ورد فيه في عالم الواقع أم لا، ويقول: بالنسبة لي شخصيا ليس لابد أن يحدث هذا.

كما أن تصريح الكاتب بحقيقية النص رداً على التساؤلات التي قد تُطرح، أو ترك الباب موارباً أمام القارئ بين التصديق أو عدمه يتوقف على موقف الكاتب نفسه، وطبيعة الموقف الذي تصب فيه/ عليه هذه التساؤلات. تأتي خيارات الصياغة مفتوحة على احتمالات كثيرة عند الكاتب بمعزل عن واقعية الأحداث أو الأشخاص لنص دون أن يكون ذلك عاملاً مساعداً، أو معيقاً لخيارات الكاتب عند الصياغة.